اختلف علماء الرجال والجرح والتعديل من الإماميّة في توثيق الرواة الواقعين في أسانيد كتاب «تفسير القمي»، لمؤلّفه الشيخ علي بن إبراهيم بن هاشم القمي (كان حيّاً عام 307هـ)، وهو من مصادر التفسير الروائي الشيعي القديم الذي اعتمد عليه جداً أئمّةُ التفسير الروائي الجامع فيما بعد، كالحويزي والبحراني والكاشاني، إلى جانب تفسير العياشي، وتفسير أبي حمزة الثمالي، وتفسير فرات الكوفي وغيرهم، وإن كان اعتماد المتقدّمين عليه أقلّ.
وعلى غرار كتاب «كامل الزيارات» حاول بعض الإخباريّين، وعلى رأسهم الحرّ العاملي، استفادة توثيق عام من مقدّمة هذا الكتاب؛ ليُثبت من خلاله وثاقة كلّ الرجال الواقعين في أسانيد هذا الكتاب، وقد تبعه على ذلك جمعٌ من العلماء، كان آخرهم السيد أبو القاسم الخوئي. وبهذا يُعلم أنّ هذه النظريّة ـ ككثير من النظريّات المتصلة بالتوثيقات العامّة ـ لم تُطرح في أوساط علماء الرجال والجرح والتعديل قبل القرن الحادي عشر الهجري.
وإذا ثبت هذا التوثيق العام فسوف تثبت وثاقة 260 أو 267 راوياً، على اختلاف النتائج والإحصاء.
لكن قد وقعت نقاشات كثيرة حول هذا الموضوع. وربما يمكنني القول بأنّ العلماء بعد السيد الخوئي لم يعودوا ليوافقوا ـ في المشهور بينهم ـ على التوثيق العام الشامل هنا، حتى أنّ بعض كبار علماء الرجال المعاصرين اعتبر اعتقاد السيد الخوئي برواة القمي هفوة عالمٍ وكبوة جواد. وقد تمحورت النقاشات هنا تارةً حول صحّة نسبة هذا التفسير الموجود بين أيدينا اليوم لعليّ بن إبراهيم القمي، فهل هو تفسيره أو تفسير خليط من تفسيره وتفسير أبي الجارود الزيدي أو غير ذلك؟ ومن هو الذي جمع بين التفسيرين؟ وأخرى حول صحّة نسبة المقدّمة للقمي بعد الفراغ عن تصحيح نسبة الكتاب؟ وثالثة حول فهم المقدّمة على أنّها تريد تقديم توثيق عام لرواة الكتاب أو لا.
ولو صرفنا النظر عن تصحيح النسبة، فسوف نجد عدّة آراء حول استفادة التوثيق العام، وأبرزها:
الرأي الأوّل: ما ذهب إليه الحرّ العاملي والسيد الخوئي، من أنّ ظاهر هذه الجملة إفادة توثيق القمي لجميع الرواة الواقعين في كلّ أسانيد كتابه.
الرأي الثاني: ما ذهب إليه جمعٌ من العلماء مثل السيد بحر العلوم، والسيد كاظم الحائري وغيرهما، واحتمله بعضهم وإن لم يختره كالشيخ آصف محسني، من أنّ المتيقّن أنّه المستفاد من كلام القمي هو توثيق خصوص المشايخ المباشرين للقمي.
الرأي الثالث: التفصيل والتقييد في دلالة شهادة القمي، ليس على مستوى المباشرة وغيرها هذه المرّة، وإنّما على مستوى أنّ في كلامه ثلاثة تقييدات هي: 1 ـ أن يكون الراوي شيعياً غير سنّي المذهب. 2 ـ أن تكون الرواية متصلة. 3 ـ أن تنتهي الرواية إلى المعصوم، فلو انتهت إلى غيره، كبعض الروايات الموقوفة الواردة منتهيةً إلى ابن عباس، فلا يشملها التوثيق.
وقد تبنّى الشيخ مسلم الداوري هذا الطرح، فإذا أضفنا إليه نظريّته في تقسيم الكتاب، وإمكان التمييز بين تفسير القمي وتفسير أبي الجارود، فسوف ينقسم الرواة عنده إلى قسمين: أحدهما ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم، وثانيهما ما ورد في تفسير أبي الجارود، فنخضع القسم الأول للشروط الثلاثة المتقدّمة، فنخرج بالثقات في هذا الكتاب.
الرأي الرابع: ما يظهر من الشيخ جواد التبريزي، من أنّ شهادة القمي مبنيّة على التغليب لا أكثر، أو أنّه يريد تصحيح رواية واحدة من كلّ باب مثلاً، فلا يوجد تحديد فيها لوثاقة شخص بعينه.
الرأي الخامس: ما ذهب إليه المولى علي بن خليل الطهراني الخليلي الرازي النجفي (1297هـ)، من أنّ المراد من هذا النصّ هو توثيق الراوي المباشر عن الإمام خاصّة، فزرارة مثلاً إذا روى مباشرةً عن الإمام ووصلت روايته للقمي، فإنّه يكون موثقاً بنصّ المقدّمة، أمّا من روى عن زرارة وصولاً إلى القمي، فهم خارجون عن المقدّمة ولا علاقة لها بتوثيقهم.
الرأي السادس: ما مال إليه السيّد علي الفاني والشيخ آصف محسني وغيرهما، من أنّ القمي ليس بصدد التوثيق بحيث نستفيد منه توثيقاً لا للمشايخ المباشرين ولا لغيرهم.
والذي توصّلتُ إليه هو:
1 ـ إنّ هذا التفسير الذي بين أيدينا لم يثبت أنّه برمّته لعليّ بن إبراهيم القمي، بل الأرجح أنّ هناك من جمع بين تفسير علي بن إبراهيم وتفسير أبي الجارود وغيرهما في كتابٍ واحد، وأنّ الجامع بين التفسيرين أو التفاسير لا نعرف عنه شيئاً، والاحتمالات التي قيلت في تعيينه لا تزيد على الظنّ إن بلغته، ومن ثمّ لا يحصل وثوق بنسبة روايات هذا التفسير لعليّ بن إبراهيم إلا ذاك المقدار الذي تمّ تخريجه في مصادر المتقدّمين الذين وصلتهم نسخةٌ معتبرة للتفسير الأصلي كالطوسي في التهذيب والتبيان وغيره.
2 ـ إنّه لم يثبت بهذه المقدّمة ـ لو سلّمنا نسبتها للقمي ـ أي توثيق عام، بل لم يثبت بها توثيق خصوص المشايخ المباشرين، ولا توثيق خصوص الرواة المباشرين للمعصوم، ولا التفصيل في التوثيق، بل غايته الإشارة لوثاقة جملة من رواة كتابه أو مصادر كتابه، ومن ثمّ فلا يمكن الاعتماد على تفسير علي بن إبراهيم الموجود اليوم لإثبات توثيقٍ عام لأحد.
ويترتب على ذلك أنّه لا يمكن القول بصحّة جميع أو أغلب روايات هذا الكتاب، بل بعد التحقيق يتبيّن ضعف أسانيد أغلب رواياته.
ولمزيد توسّع راجع كتابي (منطق النقد السندي 1: 513 ـ 564، الطبعة الأولى، 2017م).
حيدر حبّ الله
الأربعاء 1 ـ 6 ـ 2022م