المعروف عند الكثير من فقهاء الإماميّة استحباب الشرب من سؤر المؤمن (القدر المتيقّن من معنى السؤر في النصوص الدينيّة هو ما فضل من الشراب، وقد يعمّمه بعضهم لما فضل من الطعام أيضاً، وقد استخدم السؤر ـ وفقاً لرأي بعضهم ـ في الماء الذي تباشره يد شخصٍ كالحائض). ولا يبدو وجود استحباب في تناول سؤر أي مخلوق آخر من إنسان أو حيوان غير المؤمن عندهم. ويستندون في ذلك إلى بعض الروايات، أمّا أهل السنّة فلا يرون في ذلك استحباباً، بل يرى بعضهم أنّ رواية سؤر المؤمن موضوعة مجعولة، وبعضهم يعتبرها من الروايات المشهورة التي لا أصل لها.
ولا يقيّد الفقهاءُ استحبابَ الشرب عادةً بأيّ قيد ظاهر في كلامهم، لكنّ السيد السيستاني قيّد ذلك بأنّه إذا انطبق عليه عنوان آخر يقتضي خلافه كان المنطقي هو العمل على العنوان الآخر، ويظهر أنّه يلاحظ الجانب الطبّي والعدوى وأمثال ذلك، وغالب الظنّ أنّ سائر الفقهاء يوافقونه ضمناً على هذه الإضافة.
والذي توصّلتُ إليه هو عدم ثبوت استحباب الشرب من سؤر أحد بعنوانه، بمن في ذلك المؤمن، وعدم ثبوت كونه شافياً من الأمراض البدنيّة. والروايات في ذلك كلّه، مضافاً إلى أنّها قليلة جدّاً، ولم ترد في الكتب الأربعة أصلاً، وورد في سند بعضها من هو متهمٌ بالكذب والوضع.. ليس بينها غير رواية واحدة صحيحة السند، وهي صحيحة عبد الله بن سنان، وقد رواها الصدوق في كتابه: ثواب الأعمال. واللافت أنّ طريقه للرواية يغاير طريقه الصحيح السند لما رواه عن ابن سنان نفسه في كتاب الفقيه، الذي هو أحد الكتب الأربعة، ولا أدري لماذا لم يعتمد عليه في نقل هذه الرواية في الفقيه؟ والتتبّع في التراث الفقهي يرجّح أنّ أغلب الفقهاء لم يتعرّضوا لهذه المسألة، خاصّة بين المتقدّمين الذين يبدو أنّ المسألة لم تكن مطروحة بجديّة بينهم أساساً، رغم أنّهم تحدّثوا عن فقه الأسآر وأنواعها من حيث النجاسة والحرمة والكراهة، دون أن يشيروا لا من قريب ولا من بعيد لمسألة الاستحباب. بل ظاهر عبارة بعضهم الحصر حيث قالوا بأنّ الأسآر إمّا طاهرة أو نجسة أو مكروهة، ولم يشيروا لأمر آخر رابع، فمن العسير الاستناد لمواقف الفقهاء، وبخاصّة من تقدَّم منهم، لرفع القوّة الاحتماليّة في الروايات القليلة جدّاً هنا، هذا فضلاً عن أنّ بعض الروايات ـ كخبر الإمام الرضا× ـ يفيد الحثّ على التواضع بشرب السؤر، لا أنّ شرب السؤر بنفسه مستحبّ.
وعليه، فمن يرى حجيّة خبر الواحد الثقة، فضلاً عمّن يرى قاعدة التسامح في أدلّة السنن، يمكنه الأخذ بصحيحة ابن سنان هنا، ويُفتي بالاستحباب، أمّا من لا يرى إلا حجيّة الخبر الموثوق حتى في السنن ـ كما هو الصحيح ـ فإنّ الوثوق بصدور الروايات التي تحمل دلالة على استحباب الشرب من السؤر بعنوانه هنا صعبٌ جدّاً في تقديري، فلم يثبت استحباب الشرب من سؤر المؤمن بعنوانه.
لمزيد توسّع، راجع بحث سؤر المؤمن في كتابي المتواضع (إضاءات 5: 332 ـ 341، الطبعة الأولى، 2015م).
حيدر حبّ الله
الأحد 21 ـ 11 ـ 2021م