من الواضح أنّ السلطة الشرعيّة وولاة الأمر ـ مهما كانت نظريّة السلطة التي يؤمن بها الفقيه، وأنّها الولاية العامّة للفقيه، أو نظريّة الشورى، أو نظريّة الإشراف والمراقبة، أو نظريّة ولاية الأمّة على نفسها، أو غير ذلك ـ موظّفون في الشريعة على العمل بما يتوافق مع أحكامها. غير أنّ نصوصاً متفرّقة للإمام الخميني في الثمانينيّات من القرن العشرين، دفعت بعض العلماء والباحثين للخروج بقراءة مختلفة، حاولوا نسبتها ـ ولو احتمالاً ـ للسيّد الخميني نفسه.
وخلاصة هذه القراءة أنّ وليّ الأمر يمكنه تقديم ما يراه من مصالح على ما هو ثابت في الشرع عبر النصوص والأدلّة المعتبرة، فلو رأى مصلحةً في هدم مسجدٍ ـ مثلاً ـ كان له هدمه حتى لو لم تكن تلك المصلحة أقوى وأهمّ بنظر الشرع نفسه من مفسدة هدم المسجد. هذا يعني أنّ العقل البشري الذي يحمله ولاة الأمر فيما يرونه من مصالح ومفاسد مقدَّم أو له أن يتقدّم على مفادات الشرع والنصوص في دائرة الشؤون العامّة والسياسات والإدارات العامّة، وأنّه إذا لم نقل بذلك لا يكون هناك معنى ـ من وجهة نظرهم ـ لوجود دولة دينيّة أو لمفهوم تطبيق الشريعة.
والذي توصّلتُ إليه ـ بنظري القاصر ـ أنّه وبصرف النظر عن مدى سلامة تحليل هؤلاء لنصوص السيد الخميني، وأنّه هل اعتَقَدَ فعلاً بمثل هذه الفكرة عندما كان يقول بأنّ ولاية الفقيه (أو النظام الإسلامي) مقدّمة على جميع الأحكام الأوليّة في الشرع أو لا؟ إذ نصوص السيد الخميني هنا تحتمل احتمالات، وهي متنوّعة في بياناتها وطرائق تعبيرها وأزمنة صدورها.. بصرف النظر عن ذلك؛ لا تبدو لي فكرةُ كليّة تقدّم المصلحة على الأحكام الأوليّة صحيحة أبداً؛ فولاية الأمر ووظيفتها وفلسفة وجودها في الشرع تكمن في تطبيق الأحكام الشرعيّة وتسييلها على أرض الواقع فيما للشرع فيه موقف وحكم من جهة أولى؛ وفي تشخيص الموضوعات الراجعة للقضايا العامة في المجتمع والأمّة من جهة ثانية، بحيث يكون تشخيص الموضوعات من مسؤوليّات وصلاحيات السلطة الشرعيّة؛ وفي رصد الأولويّات وتطبيق فقهها على أرض الواقع من جهة ثالثة؛ وفي مقاربة الوسائل مع المقاصد على المستوى العام من جهة رابعة.
فولاة الأمر لا يمكنهم تجميد حكم إلهي أو تعطيله أو إلغائه لمجرّد أنّهم يرون مصلحة في ذلك، بل لابدّ لهم ـ كي يتسنّى لهم ذلك ـ أن يُجروا قواعد العلاقة بين الأحكام فيقدّمون ما هو الأهمّ على المهم ويقدّمون العناوين الثانوية على العناوين الأوّليّة، تماماً كما هي الحال على مستوى حياة الأفراد الشخصيّة، غاية الأمر أنّ الإنسان الذي يتعاملون معه هو الإنسان الكبير (المجتمع)، فكما يسقط حكم الوضوء عن الإنسان الصغير (الفرد) لأنّه يلزم منه ضرر عليه يحدّد إطارَه الشرعُ، ويكون الفرد هو المسؤول عن التحقّق من وجود الضرر خارجاً، كذلك يسقط حكم شرعي آخر عن الإنسان الكبير (المجتمع)، إذا كان هذا الحكم موجباً لوقوع ما يعتبره الشرع ضرراً بالأمّة والمجتمع، ويكون الاهتمام بهذا الضرر أكبر ـ بنظر الشريعة ـ من مصالح الأحكام الصغيرة الجزئيّة، ويكون المسؤول عن التحقّق من وجود هذا الضرر هو السلطة الشرعيّة الزمنيّة.
لمزيد توسّع، انظر بحث العلاقة بين النص والمصلحة، والمقاربة بين نظريّتَي الإمامَين: الطوفي والخميني في هذا الموضوع، في كتابي المتواضع (فقه المصلحة: 337 ـ 389، الطبعة الأولى، 2019م).
حيدر حبّ الله
الثلاثاء 9 ـ 11 ـ 2021م