المعروف بين فقهاء المسلمين وجوب دفن الميّت، بمعنى مواراته وستره في باطن الأرض عندهم، فلو وضع الميّت في بناءٍ مُحكم فوق الأرض، بحيث يُعلم أنّه لن ينكشف ولا يراه أحد ولن تصل إليه السباع ولن تُشمّ رائحته لم يكفِ. وقد اعتبر بعضهم هذا الأمر من الإجماعيّات، بل من الضروريّات. بل صرّح بعضهم بأنّه لو كنّا في القطب المتجمّد الشمالي مثلاً، ثمّ دفنّا شخصاً في الجليد بعمق عشرات الأمتار، بحيث نعلم أنّه لن يُمكن رؤيته، ولا تخرج رائحته ولن تصله الحيوانات ولا غير ذلك مطلقاً، والجليد لن يذوب في هذه المناطق لآلاف السنين القادمة، فلا يجوز؛ لأنّه ليس دفناً تحت الأرض.
لكنّ الذي توصّلتُ إليه بمراجعتي المتواضعة للأدلّة، هو أنّ المطلوب دفن الميّت، وهو يعني ستر جسده وإخفاءه، بحيث لا يراه أحد ولا يشمّ ريحه أحد ويكون مأموناً من الانكشاف والهتك، بحيث يكون احتمال انكشافه أو هتكه في فترة ما قبل اندراس الجسد تماماً هو احتمالٌ لا قيمة له عقلائيّاً. فلو وضعت غُرف ـ كما يفعله بعض المسيحيّين ـ بحيث تتحقّق فيها هذه المعايير كان كافياً في تحقّق الدفن شرعاً، وإن كان الاحتياط وجيهاً جدّاً هنا إذا لم يزاحمه شيءٌ آخر. وما نقوله يجري حتى مع عدم الضرورة، مثل تأثر الأرض بالماء، كما هي الحال في طرفَي النيل، والذي بسببه شاع بين المصريّين الدفن في “الفَساقي“.
وبمقدار تتبّعي لم أجد فقيهاً من الشيعة والسنّة، وافق على إجراء زحزحة في الحكم المشهور هنا، وهو الدفن في باطن الأرض، عدا ما يلوح من كلماتٍ قليلة للغاية هنا وهناك، مثل السيّد محمّد الروحاني (1997م)، حيث قال بأنّه لا يجوز وضع الميّت في بناء على الأحوط وجوباً ما دام الدفن في باطن الأرض ممكناً. وهذا الاحتياط منه يشي أو يُلمح إلى وجود ثغرة معيّنة عنده ـ رحمه الله ـ في القضيّة. كما صرّح الشيخ محمّد الصادقي الطهراني (2011م) في رسالته العمليّة بعدم اشتراط كون الدفن في باطن الأرض.
وأدلّتهم هنا تارةً بأنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني. وأخرى بأنّ هذه الطريقة جرت عليها سنّة النبيّ وأهل بيته وصحابته. وثالثة بأنّ مفهوم الدفن لغةً وعرفاً لا يصدق إلا على المواراة في باطن الأرض. ورابعة بأنّ هذا مقتضى السيرة المتشرّعيّة والإسلاميّة. وخامسة بأنّنا منهيّون عن البناء فوق القبور وهذا منه. وسادسة بأنّ بناء الأحكام والمستحبات والمكروهات على الدفن في الأرض، يُعلم ذلك من مراجعتها. وسابعة بأنّ المفهوم من مجموعة آيات قرآنيّة أنّ الدفن في الأرض (المائدة: 31؛ والمرسلات: 25 ـ 26؛ وعبس: 21). وثامنة الإجماع والضرورة، وغير ذلك من الأدلّة التي ذكرها الشيعة تارةً والسنّة أخرى.
وهذه الأدلّة كلّها قابلة للنقاش، والمجال لا يتسع هنا لذلك، لكنّ اللغة العربيّة تؤكّد لنا أنّ الدفن هو الستر والخفاء وعدم الظهور، ومنه: الداء الدفين، أي الغامض غير الظاهر، ويقال: التدافن بمعنى التكاتم، وأصل الكلمة هو الاستخفاء والغموض والستر والمواراة، على ما صرّح بذلك اللغويّون، وبهذا لا خصوصيّة للأرض إطلاقاً في الدلالة اللغويّة، بل لو سلّمنا فإنّ النصوص استخدمت هذه التعابير انطلاقاً من كون هذه هي طرق المواراة المتعارفة آنذاك، ولم ترَ ضرورةً في تغيير طرق الدفن هذه، فالشريعة لا تلعب دور التأسيس هنا، بل الدفن هذا قائم قبل ورود الشرع، فتعاملها معه لا يدلّ على حصر الدفن به، وبخاصّة أنّ الدفن تحت الأرض هو الطريق الأكثر أمناً آنذاك وتحقيقاً للمطلوب، تماماً كما جاءت الشريعة ورأت وسائل النقل في بلاد العرب والمسلمين ليس منها الفيل، فهذا لا يعني المنع عن جعل وسيلة النقل الفيل بحجّة أنّ بناء النصوص والسيرة على ذلك! ومناسبات الحكم والموضوع جليّةٌ هنا للذهن العرفي غير القَلِق، وعليه فلا موجب لإجراء قاعدة الشغل اليقيني أو توظيف تعبير «الدفن». وتعارفُ هذه الطريقة ـ الدفن في الأرض ـ لا يوجب تعيّنها، بل الشريعة لم تتدخّل فيها، وربما لكونها أحد أبرز وأفضل أشكال الواجب المطلوب، فجرت ألسنة النصوص على ما تعارف بين الناس آنذاك. ومثلُه غيرُ عزيزٍ في الكتاب والسنّة. وبناء المندوبات والمكروهات على ذلك غاية ما يفيد ـ لو أفاد ـ الاستحباب، لا غير. والنصوص القرآنية أجنبيّة إنصافاً عن الموضوع. والإجماع واضح الحال، بل بعض النصوص الحديثيّة التعليلية واضحة في أنّ العبرة بتحقّق ستر الجسد وحمايته من انتشار الرائحة والهتك والحيوانات، وأنّ فكرة الدفن لها بُعدان: حقّ الناس بأن لا يتأذّوا من رائحة الميّت أو من رؤيته، وحقّ الميت بأن لا يُهتك بتعرّض الحيوانات له أو شمّ رائحته أو رؤية الناس له أو شماتة الأعداء به أو نحو ذلك. والكلام فيه بسطٌ لا يسعه هذا المختصر.
حيدر حبّ الله
الاثنين 29 ـ 11 ـ 2021م