المعروف بين الفقهاء في بحث غسل الجنابة أنّ من مسبّبات هذا الغسل خروج المني، وقد ذكروا أنّه إذا عرف المني وتمّ التأكّد من خروجه يجب ترتيب الآثار على ذلك، وإلا فلو خرج من الرجل شيءٌ وشُكّ في كونه منيّاً أو لا، فقد اعتمدوا على علامات هي: الدفق والشهوة وفتور الجسد، وبعضهم ذكر علامتين منها، وبعضهم واحدة، وبعضهم أضاف الرائحة، وكذلك اللون الأبيض الذي يصير أصفر عند الجفاف، وغير ذلك من الكلمات.
هذا، ولعلّه يُستوحى من ابن إدريس الحلّي أنّ هذه العلامات لا أثر لها.
والذي توصّلتُ إليه ـ والعلم عند الله ـ أنّ المنيّ إن عُرف، وجوداً أو عدماً، ولو من خلال القرائن والأمور الغالبيّة عمل به، وإن لم يحرَز أنّ الخارجَ منيٌّ أو لا، وظلّ الشكّ الحقيقي الموضوعي قائماً رغم وجود بعض القرائن مثلاً كالدفق مع الشهوة أو هما مع الفتور أو الفتور مع الدفق.. حُكم بالطهارة، وإن كان الأحوط استحباباً مع الشك ووجود هذه العلامات هو الغُسل مع ضمّ الوضوء إليه إذا كان قبل ذلك محدثاً بالحدث الأصغر، وعليه فالعلامات الثلاث أو الأربع أو الخمس، كلّها أو بعضها، ليست معياراً تعبّديّاً في إثبات الجنابة، بل هي قرائن خارجيّة مساعدة على معرفة المنيّ واقعاً في كثير من الأحيان على الأقلّ.
والتأمّل في الأدلّة التي ذكروها يفضي لتنويعها إلى نوعين:
النوع الأوّل: محاولات خارجيّة لتأكيد واقعيّة التلازم بين هذه الصفات وخروج المنيّ. وهذا ليس من شأن الفقهاء ولا اختصاصهم، بل لا حجيّة لتقويمهم الموقف هنا بما هم فقهاء، بل يرجع في ذلك للدراسات العلمية المؤكّدة دون الظنيّة، فإن ثبت علميّاً أنّ وجود علامة أو اثنتين من هذه أو غيرها يوجب اليقين بأنّ البلل منيٌّ، عُمل به؛ لمكان العلم واليقين، وإلا فلا حجيّة للظنّ هنا، بل التلازم المزعوم لا يعطي ـ لو تمّ ـ تعبديّة هذه العلامات عند الشكّ، وإنّما يُعطي اليقين بكون البلل منيّاً وزوال الشك واقعاً. ونحن أيضاً نقول بأنّ الإنسان العادي إذا اجتمعت عنده هذه العلامات الثلاث حصل لديه يقين عادة بأنّ السائل منيّ، سواء وردت روايات بذلك أم لم ترد، فانتبه فكلامنا في المعياريّة التعبديّة حال الشكّ هنا.
النوع الثاني: الروايات، وبمراجعتها ـ على قلّتها ـ يظهر أنّ:
أ ـ بعضها بصدد اشتراط وجوب الغُسل بالعلامات، وذلك مثل معتبرة عليّ بن جعفر، قال: سألته عن الرجل يلعب مع المرأة ويقبّلها، فيخرج منه المنيّ (الشيء)، فما عليه؟ قال: «إذا جاءت الشهوة ودفع وفتر بخروجه فعليه الغسل، وإن كان إنّما هو شيء لم يجد له فترة ولا شهوة فلا بأس».
لكنّ هذا النوع من النصوص يفيد في الحقيقة اشتراط الشهوة في ثبوت الغسل بخروج المني (وهو ما قد نتكلّم عنه لاحقاً إن شاء الله)، لا كون الشهوة والفتور من علامات المنيّ التعبديّة عند الشك في كونه منيّاً، ويشهد لذلك أنّ السائل افترض في السؤال أنّ الخارجَ منيٌّ، ويسأل عن الموقف لا أنّه يسأل عن كون الخارج منه منيّاً أو لا؟ ومع ذلك اشترط الإمام هذه الشروط، مع أنّ هذه العلامات إنّما يؤخذ بها ـ باتفاق الفقهاء ـ في حال الشكّ في كون البلل منيّاً أو لا، لا في حال العلم بكونه منيّاً أو بعدم كونه كذلك. فمن الغريب ما قاله العاملي صاحب المنتقى تبعاً للطوسي، من أنّ التصريح بكون الخارج منيّاً، بناه السائل على الظنّ، فجاء الجواب مفصّلاً للحكم، دافعاً للوهم! إلا إذا أخذنا اختلاف نقل الرواية، حيث وردت الرواية في مسائل عليّ بن جعفر وفي قرب الإسناد للحميري، بتعبير “الشيء”، لكن بسندٍ ضعيف على التحقيق، فينسجم الجواب مع دعوى المشهور، لكن يبقى أنّ جواب الإمام هل هو بصدد إعطاء معيار تعبّدي أو هو بصدد بيان علامات خارجيّة غالبية تفيد الوثوق بكون السائل منيّاً؟ هذا ما يحتاج لتبيين. ودعوى التعبديّة تحتاج لدليل؛ ولهذا عندما علّق الفقهاء والمحدّثون هنا ـ منذ الطوسي ومن بعده ـ قالوا بأنّ هذه العلامات من البعيد وجودها مع عدم كون السائل منيّاً. ولو غضضنا الطرف عن ذلك كلّه، فالرواية حيث إنّها مختلفة الصيغة بين المصادر، لا يمكن البناء عليها لإثبات حكمٍ إضافي هنا.
ب ـ وبعضها الآخر ـ مثل خبر ابن أبي يعفور ـ بصدد إثبات أنّ البلل الخارج منيٌّ ولو مع فقدانه هذه العلامات (عدا أصل الشهوة)، انطلاقاً من أنّ المكلّف مريض، فقد تخلو هذه العلامات منه.
وهذا لا يفيد مرجعيّة هذه العلامات في حال الشكّ تعبّداً، بل يفيد الحكم بالجنابة للمريض ولو من دون بعض هذه العلامات، وفرقٌ كبيرٌ بينهما، فعدم بعض هذه العلامات لا يوجب رفع احتمال كون البلل منيّاً؛ إذ خصوصيّة المرض تبرّر ذلك، أمّا أنّ الإمام جعل الدفق تعبّداً علامة للصحيح حتى عند الشكّ، فهذا غير واضح، فهو في مقام تبرير غُسل المريض رغم تأخّر نزول المني منه بعد الاستيقاظ وفقدان الدفق.
ج ـ وبعضها الثالث ـ مثل مرسل ابن رباط ـ يبيّن أنّ المنيَّ هو الذي يكون معه شهوة ودفق وفتور.
وهذا لا يدلّ على شيء هنا؛ لأنّ كون المنيّ معه هذه الصفات لا يعني أنّ هذه الصفات كافية في إثبات كون البلل منيّاً تعبّداً، فالرواية ليست ناظرة لحال الشكّ في البلل، وتحديد موقف تعبّدي حاله، بل ناظرة لتوصيف المنيّ أنّه الذي يخرج بهذه الكيفيّة، وهذا يكفي فيه أن يكون غالبيّاً، بدليل أنّ روايات المريض لم تكن فيها بعض هذه الصفات، ومع ذلك حكمت بأنّه منيّ، فالغالب في المني أن يكون خروجه مع هذه الصفات، فإن تحقّقت وحصل اليقين فبها، أمّا لو كان هناك مانع عن حصول اليقين معها، كما لو كان الشخص قد تناول مادّةً معيّنة قد توجب خروج المذي (وليس المني) منه بنفس هذه الطريقة مثلاً، فلا دلالة فيها على التعبّد باعتباره منيّاً، فانتبه. علماً أنّ عمدة روايات المجموعة الثالثة قليل العدد ضعيف الإسناد.
وعليه، فليس بأيدينا خبر موثوق الصدور تامّ الدلالة يمكن أن ينفع في إثبات العلامات بوصفها تعبديّة، بل هذه العلامات علامات واقعيّة غالباً، فتنفع في تحصيل الوثوق العقلائي بكون السائل منيّاً، لكن لو طرأ ما يوجب الريب ـ كما رأينا في أنموذج المريض ـ أشكل الرجوع إلى وجودها لإثبات كون السائل منيّاً اعتباراً، كما يشكل الرجوع لانتفاء واحدةٍ منها لنفي كونه منيّاً تعبّداً. ولعلّ بعض الفقهاء، وبخاصّة من القدماء، كانوا ينظرون لهذه العلامات بهذا المعيار لا بمعيار التعبديّة.
حيدر حبّ الله
الثلاثاء 15 ـ 2 ـ 2022م