المعروف بين الفقهاء أنّ تعمّد البكاء في الصلاة إذا كان لأمرٍ أخروي كالخوف من الله تعالى أو التذلّل له أو الشوق والحبّ له سبحانه أو نحو ذلك فإنّه لا يوجب بطلان الصلاة، بل هو أمرٌ مرغوب محبوب، أمّا لو كان البكاء لأمرٍ دنيويّ، كخسارة مال، أو الخوف من سلطان، أو كان لموت قريبٍ أو حبيب، أو كان لوجعٍ في جسده أو ألمٍ وهمٍّ في قلبه واكتئابٍ وحزن ـ كما يحصل لكثير من الناس في حياتهم ـ وما شابه ذلك، فإنّه موجبٌ للبطلان إذا كان مع صوت، بل عمّمه بعضهم لمطلق البكاء ولو كان بلا صوت، فيما رفض آخرون المبطليّة من دون صوت أو احتاطوا فيها وجوباً. ووقع خلافٌ بينهم في أنّه لو بكى وهو يدعو الله أن يحقّق له أمراً دنيويّاً، فذهب كثيرون إلى أنّه من شؤون الآخرة وتحفّظ بعضٌ هنا.
وخالف في أصل هذا الحكم بعضُهم، فاستشكل فيه الأردبيلي وصاحب المدارك، أمّا المعاصرون:
أ ـ فاحتاط قسمٌ منهم احتياطاً وجوبيّاً تارةً في أصل المبطليّة مطلقاً دون أن يُفتوا، ومن هؤلاء: السيّد محمّد سعيد الحكيم، والسيّد محمّد حسين فضل الله، والشيخ الوحيد الخراساني، والسيّد كاظم الحائري، والسيّد علي السيستاني. وأخرى كان الاحتياط الوجوبي في خصوص مبطليّة البكاء الذي يكون مع صوت، أمّا من دون صوت فأفتوا بعدم مبطليّته، ومن هؤلاء: السيّد محمّد باقر الصدر. واللافت أنّ السيد الخوئي الذي يظهر من عبارته الفتوائيّة الفتوى بالمبطليّة في الصوت والاحتياط الوجوبي من دونه لم يوافق في بحثه العلمي مطلقاً على مبطليّة البكاء، واعتبر أدلّتَه ضعيفة، فإمّا ينبغي فهم عبارته الفتوائية بطريقة يعود فيها الاحتياط الوجوبي للحالتين (مع الصوت وبدونه) أو يكون قد عدل عن مفاد بحثه العلمي، أو العكس.
ب ـ وأفتى قسمٌ آخر بعدم المبطليّة مطلقاً، ومن هؤلاء: السيّد موسى الشبيري الزنجاني الذي احتاط استحباباً بإتمام الصلاة التي بكى فيها للدنيا ثمّ إعادتها.
والذي توصّلتُ إليه ـ والعلم عند الله ـ هو عدم كون البكاء مبطلاً للصلاة مطلقاً، أكان مع صوتٍ أو من دونه، لأمرٍ دنيويّ أو أخرويّ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن لا يوجب البكاءُ محوَ صورة الصلاة أو التلفّظ بكلام الآدميين، وإلا بطلت الصلاة من هاتين الناحيتين بناء على مبطليّتهما مطلقاً.
والأدلّة هنا:
تارةً اعتباريّة أو تقعيديّة، وقد استخدمها بكثرة فقهاء أهل السنّة، من قبيل أنّ الأصل في كلّ فعل في الصلاة الحرمة والبطلان إلا ما ورد فيه نصٌّ أو إجماع، وهي دعوى لا دليل عليها، أو أنّ البكاء فعلٌ خارج عن الصلاة فيكون مبطلاً لها، مع أنّه لا دليل عل أنّ كلّ فعل خارج عن الصلاة يُبطلها حتى لو لم يلزم منه محو صورتها، كما لو حرّك يده أو مسح بها رأسه أو حرّك أصابعه، إلى غير ذلك من هذا النوع من الأدلّة.
وأخرى نصيّة، وهي روايات عن أهل البيت النبوي، وهما روايتان ضعيفتان سنداً، بل لعلّهما ترجعان لرواية واحدة فقط. وسبب إفتاء الكثير بالمبطليّة ـ رغم قلّة عدد الروايات وضعف سند جميعها ـ ليس إلا الإجماع تارةً، ودعوى انجبار ضعف سند الروايتين بعمل الأصحاب تارةً أخرى. والإجماعُ ليس بحجّة هنا؛ إذ هو واضح المدركيّة، خاصّة وأنّ الوجوه الاعتباريّة والتقعيديّة كانت متداولة أيضاً في الوسط السنّي منذ القرون الأولى، فلعلّ بعضها هو الذي أوجب اقتناعهم بالإبطال، بل قد رأينا أنّ بعضهم ينصّ على الأخذ ببعضها. وقاعدةُ الجبر لم تثبت ما لم يحصل وثوق بالصدور منها، وكيف يمكن أن يحصل مع احتمال أنّ تعاضد الروايات مع الوجوه الاعتبارية والتقعيدية هو ما جعلهم يفتون بالمبطليّة لا خصوص الروايتين هنا، حتى توجب فتواهم الوثوق بصدورهما؟! كما أنّ المؤشرات على وجود هذا الرأي قبل الطوسي تكاد تكون منعدمة، فلعلّه يترجّح بالنظر أنّ الطوسي هو الذي فتح هذا الباب إماميّاً وتبعه القوم بعده، فانعقدت الشهرة، فلا يُحرز شهرة حقيقيّة بين المتقدّمين، كما ألمح إلى ذلك أيضاً بعض الفقهاء مثل السيّد الخوئي.
حيدر حبّ الله
الجمعة 14 ـ 1 ـ 2022م