المشهور بين فقهاء الإماميّة في اللقطة بالمعنى الأخص، أو ما يُسمّى بلقطة المال الصامت، وهو المال الضائع الذي يعثر عليه الإنسان، ولا يكون إنساناً (كطفلٍ صغير، ويسمّى باللقيط)، ولا حيواناً (ويسمّى بالضالّة).. المشهور بينهم ـ بل ادّعي عليه الإجماع ـ أنّه إذا كانت قيمة هذه اللقطة ذات العلامة دون الدرهم (وقدّروه بغرامين ونصف من الفضّة)، جاز له أخذها، ولا تترتّب عليها أيّ من أحكام اللقطة الأخرى مثل وجوب التعريف عنها وما شابه ذلك، على خلافٍ بينهم في وجوب ضمانها لمالكها لو ظهر المالك وطالب بها أو لا. أمّا لو كانت اللقطة بمقدار الدرهم وما زاد، فإنّها تترتّب عليها سائر الأحكام من التعريف وغير ذلك. ويميّز بعض فقهاء أهل السنّة ـ لا سيما من الأحناف ـ بين ما يقلّ عن حدود عشرة دراهم فلا يجب تعريفها وما يزيد فيجب، وفي قولٍ عند بعض المالكيّة أنّ المعيار هو ربع دينار.
ومن القلائل جداً الذين وجدت لهم رأياً مخالفاً للمشهور هنا، هو الشيخ محمّد إسحاق الفياض والسيّد كاظم الحائري والسيد كمال الحيدري، فلم يأخذوا بفكرة الدرهم وأمثالها، ومن الذين علّقوا أيضاً هنا السيد محمّد باقر الصدر. ولعلّ الثلاثة تأثروا بما طرحه السيد محمّد باقر الصدر.
والذي توصّلتُ إليه ـ والعلم عند الله ـ أنّه لا فرق في اللقطة وأحكامها بين أن تكون قيمتها أقلّ من الدرهم أو مساوية له أو أزيد، وكذا الحال في العشرة دراهم أو في ربع الدينار، بلا فرقٍ أيضاً في هذه النقطة بين لقطة الحَرَم ولقطة غير الحرم. إنّما التفصيل يجب أن يكون بين المال الذي يُعلم ـ ولو بسبب قلّته ـ أنّ مالكَه بعد أن أضاعه أعرض عنه وتركه، أو أنّه يأذن بالتصرّف فيه لواجده، فإنّ علم ذلك أو حصل الاطمئنان بالقرائن مثلاً، ففي الحالة الأولى (الإعراض) يجوز للملتقِطِ أخذ المال وتملّكه، سواء كان فوق الدرهم أو دونه، بلا ضمانٍ للمالك الأوّل، حتى لو جاء وطالب به فلا يستحقّ شيئاً بعد إعراضه عنه وتملّك الثاني له. أمّا في الحالة الثانية (الإذن في التصرّف) فيجوز لملتقطه أخذه والتصرّف فيه، لكنّه يضمنه لصاحبه لو جاء لاحقاً وطالب به. أمّا لو لم يحرز الإعراض ولا الإذن، فيجب ترتيب تمام آثار اللقطة عليه، بلا فرقٍ بين كونه درهماً أو عشرة دراهم أو ربع دينار، أو أقلّ من ذلك كلّه، أو أزيد.
والمستند الرئيس لهم هنا ليس سوى أمرين:
1 ـ الإجماع والشهرة، وهما واضحان في مدركيّتهما، لو أمكن إثباتهما تاريخيّاً.
2 ـ روايتان ترجعان ـ على الأرجح ـ لرواية واحدة، وهما:
مرسلة محمّد بن أبي حمزة، عن أبي عبد الله×، قال: سألته عن اللقطة، قال: «تعرّف سنة قليلاً كان أو كثيراً، قال: وما كان دون الدرهم فلا يعرّف» (الكافي 5: 137).
ومرسلة الصدوق (الفاقدة للإسناد كليّاً)، عن الإمام الصادق أيضاً، قال: «وإن كانت اللقطة دون درهم فهي لك لا تعرفه» (كتاب من لا يحضره الفقيه 3: 297).
بل يترجّح أنّ الصدوق قد نَقَل عين رواية الكافي بالمضمون، وقد بحثنا ـ تبعاً للمجلسي الأوّل ـ في أنّ أغلب مراسيل الصدوق في “الفقيه” هي روايات أخذها من كافي الكليني نفسه، لكنّه حذف أسانيدها، وكأنّه لا يريد أن يقول ـ لسببٍ أو لآخر ـ بأنّني أخذت رواياتٍ من الكليني، أو لم يكن له طرق إلى مصادر الكليني فيها، أو غير ذلك من الأسباب المحتملة، والعلم عند الله.
والروايتان ضعيفتان سنداً، وعمل الأصحاب بهما غايته وثوقهم بالصدور، وهو ليس حجّةً علينا؛ إذ هم أجروا معاييرهم في كيفيّة تحصيل اليقين، وليس من الضروري أن نوافقهم عليها لو اطّلعنا عليها، تماماً كما اختلفنا معهم في الكثير من الأمور لما انكشف لنا مستندهم، فليسوا معياراً موضوعيّاً مطلقاً في تحديد اليقين في مثل هذه الحالات، كما بحثناه مفصّلاً في كتاب (الحديث الشريف، حدود المرجعيّة ودوائر الاحتجاج)، وبخاصّة في بحث قاعدتَي: الجبر والوهن السندي والدلالي. وأمّا مراسيل الصدوق فلا حجيّة فيها إذا خلت من قرينة خاصّة، حتى لو جاءت بصيغة الجزم عنده، كما حقّقناه بالتفصيل أيضاً في الكتاب المشار إليه آنفاً. وبهذا ليس بين أيدينا أكثر من خبرٍ آحادي ظنّي ضعيف الإسناد هنا، مخالف لكلّ القواعد ولعمومات باب اللقطة. بل إنّني أحتمل ـ والله العالم ـ أنّ تعبير الدرهم في الرواية، ليس سوى كناية عن قلّة المال جدّاً في ذلك الزمان، بحيث يزهد به صاحبه ولا يطلبه (الإعراض أو الإذن)، وهذا الاحتمال وجدته ـ بعد بحثي لهذه المسألة ـ مشاراً له في كلمات بعض العلماء، مثل السيد محمّد باقر الصدر في تعليقته على المنهاج، والظاهر أنّه تبعه في ذلك السيّد كاظم الحائري.
أمّا أهل السنّة، فيصرّحون بأنّه ليس لديهم نصّ ولا إجماع في هذه المعايير (عشرة دراهم أو ربع دينار أو..) بل هي تطبيقات منهم لفكرة قلّة المال والزهد به لا أكثر. وتطبيقات الفقيه التي من هذا النوع لا حجية فيها إذا صدرت منه بما هو فقيه، كما قلنا مراراً، فالقضيّة تتبع العرف وتتغيّر بتغيّر الزمان والمكان والظرف والحال.
حيدر حبّ الله
الاثنين 7 ـ 2 ـ 2022م