اختلف فقهاء المسلمين في اشتراط اللغة العربيّة في خُطب الجمعة (وأحياناً العيدين):
فذهب بعضهم إلى وجوب اللغة العربيّة، وهو ما اختاره العديد من فقهاء الإماميّة (في القدر الواجب من الخطبة)، والمالكيّة والحنابلة؛ حيث أفتوا بشرط العربيّة حتّى ولو كان السامعون لا يعرفون اللغة العربيّة، واحتاط وجوباً بعض الفقهاء بالجمع بين العربيّة وغيرها لو كان الحاضرون لا يعرفون العربيّة. وحاول بعضٌ الحديث عن إلقاء الخطبة بالعربيّة، ثم ترجمتها إلى لغة المستمعين.
فيما رأى آخرون أنّ شرط العربية إنّما يثبت لو كان السامعون يعرفون العربيّة، أمّا لو كانوا لا يعرفونها فإنّه يجوز إلقاء الخطبة بغير العربيّة. وهو ما مال إليه بعض الحنابلة واشتهر بين الشافعيّة.
ورأى فريقٌ ثالث أنّه لا تُشترط العربيّة أصلاً في الخطبة، فيمكن الإتيان بأيّ لغةٍ أخرى ما دام السامعون يفهمونها. والعربيّة مستحبّة أو هي الأحوط استحباباً لا أكثر. وهذا هو مذهب العديد من فقهاء الأحناف ومال إليه بعض الشافعيّة. وفي العصر الحديث أفتى الكثير من فقهاء ومجامع الفقه عند أهل السنّة بجواز الخطبة بغير العربيّة إذا كان الحاضرون لا يفهمون اللغة العربيّة.
وقد بنى أصلَ المسألة بعضُ فقهاء الإمامية هنا على الاحتياط الوجوبي، مثل السيد الگلپایگاني، والسيد علي السيستاني، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي، والسيد صادق الشيرازي، وغيرهم. بل خالف صريحاً في أصل اشتراط العربية جماعةٌ (في غير النصّ القرآني المتضمَّن في الخطبة)، فأجازوا الخطبة بغير العربيّة، ومن هؤلاء: السيد محمّد باقر الصدر، والشيخ محمد علي الأراكي، والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ محمّد إسحاق الفيّاض، وغيرهم.
والذي توصّلتُ إليه هو عدم اشتراط اللغة العربيّة، لا في خطبتَي الجمعة ولا في خطبة العيد ولا غير ذلك مما يُشبه هذا المقام، بل العبرة باستخدام اللغة التي توصل الفكرةَ للحاضرين، فلو استُخدمت العربيّةُ والحضور من غير العرب ولا يفهمون شيئاً من اللغة العربيّة بما في ذلك الأمر بتقوى الله مثلاً، فإنّ الاكتفاء باستخدام اللغة العربيّة مشكلٌ جدّاً هنا، كما أنّهم لو كانوا يعرفون العربية وغيرها جاز استخدام أيّ من اللغتين ما دام الغرض يحصل من ذلك، ولو كانوا لا يعرفون إلا العربية لزم استخدام العربيّة، وهكذا. نعم، مقتضى الاحتياط ذكر النصّ القرآني الذي في الخطبة باللغة العربيّة.
وعُمدة أدلّة الفقهاء هنا:
تارةً التأسّي بالنبيّ وأهل بيته وصحابته، فإنّهم كانوا يستخدمون اللغة العربيّة.
ومن الواضح أنّه دليلٌ قابل للمناقشة جدّاً؛ إذ المفروض أنّ الحضور أو أغلبهم كانوا من الذين يفهمون العربيّة، لا أقلّ في المقدار الواجب من الخطبة، فكيف نعرف الاشتراط في مثل هذه الحال حتى بالنسبة لمن لا يعرف العربيّة؟! بل مقتضى طبيعة الأشياء أن يتكلّموا بالعربيّة فكيف يمكن استنتاج الموقف من مثل هذه الوقائع التاريخيّة؟!
وأخرى بأنّ قاعدة الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.
ومن الواضح أنّها محكومة لما يفيد نفي الاشتراط هنا، ولو كان أصلاً عمليّاً، كما حقّقه الأصوليّون في أمثال المقام.
وثالثة بدعوى انصراف الأدلّة إلى العربيّة، فعندما تأمر النصوص بتحميد الله وتسبيحه ونحو ذلك فهذا منصرف إلى اللغة العربيّة.
وجوابه في تقديري واضحٌ، فلا دليل على هذا الانصراف، فالله يمكن تسبيحه بمختلف اللغات، وقد سبّحه الأنبياء السابقون وحمدوه وأثنوا عليه وغير ذلك بمختلف اللغات العربيّة وغيرها كما هو واضح، وصدق عنوان التسبيح والثناء والحمد على ذلك كلّه مؤكّد على مستوى اللغة العربيّة.
ورابعة بأنّ الخطبتين في صلاة الجمعة تقومان مقام ركعتين، فكما تُشترط العربيّة في الركعات الصلاتيّة كذا هنا.
وجوابه أنّه لو سلّمنا اشتراط العربيّة في الصلاة في غير القراءة، فإنّه لا إطلاق في دليل التنزيل هنا، لو قلنا بحجيّته وبأنّ المراد منه التنزيل حقّاً (روايات جعل الجمعة ركعتين لمكان الخطبتين، لا دلالة لها على كون الخطبتين جزءاً من الصلاة وتترتّب عليهما أحكام الصلاة، باستثناء عدد قليل جدّاً من الأخبار الآحاديّة والتي عمدتها خبر عبد الله بن سنان، فإنّ فيها ما يفيد ذلك، لكنّ ظاهر بعض الروايات تخفيف الجمعة لركعتين لأجل الخطبتين، لا كون الجمعة هي المركّب من الخطبتين والركعتين، فراجع وتأمّل جيّداً)، ولهذا لم يشترطوا في الخطيب أن يكون مستقبلاً القبلة، بل لا يعقل أن يكون هو مستقبلها ويكون الحاضرون كذلك، والمفروض أنّ الخطبة جزءٌ من صلاة الجميع! ولم يشترط كثيرون العربيّةَ في غير المقدار الواجب من الخطبة، بل ذهب بعضهم لجواز الشروع في الخطبتين قبل الزوال، بل أغلب شروط الصلاة غير مأخوذة في المصلّين حال الخطبتين من الطهارة وغير ذلك، بل لم يرَ بعضهم اشتراط حضور الخطبة في تصحيح الصلاة، وهكذا، وهذا كلّه مؤشرٌ على أنّ التنزيل المدّعى ليس مراداً بنحوٍ يكون مرجعاً إطلاقيّاً.
إلى غير ذلك من الوجوه والمناقشات، فلا نطيل.
حيدر حبّ الله
الجمعة 15 ـ 4 ـ 2022م