المعروف بين الفقهاء المسلمين ـ بمذاهبهم ـ عدم جواز تعليق البيع إمّا مطلقاً كما هو ظاهر بعضٍ، أو على شيء غير معلوم الحصول حال البيع، بل يشترط في الصحّة التنجيز، فلو قال: بعتك هذا العقار إذا جاء زيد من السفر يوم الجمعة القادم، بَطَل البيع، وكذا لو قال: بعتك هذه السيارة إذا لم يرتفع ثمنها في السوق يوم الجمعة، بطل كذلك، بل أبطل كثيرون البيع لو كان بصيغة: بعتك داري إذا هلّ هلال الشهر القادم ممّا هو معلوم التحقّق مستقبلاً عادةً، أمّا لو قال: بعتك إذا كان اليوم هو يوم السبت وهما يعلمان أنّه يوم السبت بالفعل صحّ البيع. وقد ذكروا للتعليق صوراً كثيرة تزيد على عشرة من حيث معلوميّة المعلّق عليه وعدمها، ومن حيث حاليّته واستقباليّته وغير ذلك.
والذي يظهر من الفقهاء أنّهم يذكرون شرط التنجيز في بعض الأبواب والمعاملات ـ خاصّةً البيع والوكالة والنكاح ـ دون بعض آخر، لكنّ تحليل كلماتهم وطبيعة أدلّتهم ومقارباتهم للموضوع يرجّح أنّهم يرون هذا الشرط سارياً في مختلف المعاملات إلا ما خرج بدليل في غير ما كان التعليق فيه ذاتيّاً كالوصيّة والتدبير، ولا أقلّ يُفهم ذلك من كثيرٍ منهم. نعم ذهب كثيرون إلى اختصاص ذلك بالعقود اللازمة دون الجائزة والإذنيّة.
لكن في مقابل ذلك ثمّة وجهة نظر مختلفة قال بها عددٌ قليل من العلماء، فمثلاً قيّد بعضهم ـ مثل الشيخ محمّد تقي بهجت ـ البطلان في البيع بحالة ما لو كان التعليق يفتح على احتماليّة حدوث منازعة بين المتبايعين. واحتاط بعض الفقهاء وجوباً في شرط التنجيز وعدم التعليق، ولم يفتِ، ومن هؤلاء: السيد روح الله الخميني (وكان في بحوثه العلميّة قاطعاً في نفي اشتراط التنجيز)، والسيد كاظم الحائري، وهو ما يظهر أيضاً من الشيخ فاضل اللنكراني في مواضع عدّة عدا النكاح والطلاق. وأفتى السيد كمال الحيدري بجواز تعليق البيع مطلقاً. ويظهر من المحقّق الأردبيلي ـ في بعض المواضع ـ أنّه غير مقتنع بهذا الشرط لولا الإجماع، ولعلّه من أوائل من عدّل دفّة البحث في تاريخ الفقه الإمامي حيث تبعه في المقاربات البحثيّة مثل المحقّق السبزواري والمحقّق القمي وغيرهما إلى اليوم. والمنسوب إلى أبي حنيفة وبعض أصحابه هو تجويز التعليق ولو في الجملة، بل هو المنسوب أيضاً إلى بعض الحنابلة ومنهم ابن تيمية وابن قيّم الجوزيّة. وذهب السيد الخوئي لجواز التعليق في بحوثه الاستدلاليّة في البيع، مناقشاً جميع الأدلّة، لكنّه في الفتوى أفتى بالمنع عنه، ولعلّه عدل عمّا توصّل إليه في بحثه العلمي، كما يُفهم ذلك من بحوثه الاستدلاليّة في النكاح، والله العالم.
والذي توصّلتُ إليه هو صحّة جميع المعاملات ـ بنحو القاعدة حيث لا يرد دليل خاصّ في ثبوت استثناء في موردٍ بعينه ـ سواء وقعت منجّزة أم معلّقة، وسواء علّقت على معلوم الحصول حال العقد أو بعده أم على غيره، وسواء علّقت بنحو الصفة أم الشرط، وسواء كان التعليق على أمرٍ حالي أم استقبالي، وسواء كان التعليق صريحاً أم ضمنيّاً.. ما دام التعليق غير منافٍ في صدق العقد عرفاً وعقلائيّاً، بلا فرقٍ في ذلك بين العقود اللازمة والجائزة والعهديّة والإذنيّة، وإن كان التجويز في العقود الجائزة والإذنيّة أوضح. ومعنى ذلك كلّه أنّ العقد يقع صحيحاً لا يكتمل مُنشَؤه إلا بتحقّق ما عُلّق عليه، فإذا لم يتحقّق فلا عقد، وإذا تحقّق ترتّب آثاره.
وقد أقرّ كثيرٌ من الفقهاء المتأخّرين بأنّه لا يوجد دليل مقنع هنا عدا الإجماع، إذ ليس هناك أيّ آية أو رواية في الموضوع بإطلاقيّته، والإجماع واضح المدركيّة؛ يظهر ذلك بمراجعة نصوصهم منذ زمن الطوسي (الذي يعتبر حجر الزاوية في توسعة شرط التنجيز في المعاملات) ـ بل وما قبله عند أهل السنّة ـ حيث يذكرون أدلّةً منها عدم الدليل على الصحّة. كما استدلّ بعضٌ آخر بأدلّة ذات نمط فلسفي وقعت في خلطٍ شديد بين الأمور الحقيقيّة والأمور الاعتباريّة. أمّا القول بأنّ المعاملات توقيفيّةٌ فلا يصحّ العقد مع الشكّ؛ لأصالة الفساد في العقود، وهو ما يظهر أنّه دليل شاع على ألسنة جملة من المتقدّمين.. فهو غير صحيح بعد إمكان التمسّك بالإطلاقات والعمومات ـ بل والارتكازات ـ القاضية بصحّة المعاملات العقلائيّة ولو الحادثة على ما حقّقناه في محلّه وذهب إليه الكثير من الفقهاء المتأخّرين. كما أنّ دعوى أنّه لا يوجد رضا فعلي بهذه المعاملة والمفروض شرطيّة الرضا، هي أيضاً قابلة للمناقشة؛ لأنّ الرضا شرطٌ لا الرضا الفعلي، بل لو قلنا به فالرضا يتبع ما وقع عليه التراضي، وهو فعليٌّ بلحاظه. ودعوى أنّه بيع غرري غير مقنعة إطلاقاً ولو كان ففي موارد محدودة لا بنحو القاعدة. ودعوى أنّ العقد يعتبر فيه الجزم غير ثابتة، بل هي بنفسها تحتاج لدليل لو قُصد بها المنشأ، بل هي أخص من المدّعى لانحصارها بخصوص حال الجهل لا صورة العلم بما عُلّق العقد عليه. والقول بالانصراف إلى العقود المتعارفة والتي هي منجّزة عادةً وأنّ العقود المعلّقة مستنكرة عقلائيّاً، غير تامّ، بل نكتة التصحيح أو الإمضاء هي عبارة عن عقديّة العقد لا غير.. فضلاً عن أنّ المعاملات التعليقيّة موجودة عند العرف والعقلاء بل وفي الشرع نفسه كالوصيّة وغيرها. والاستناد لسيرة المسلمين على بطلان التعليق ولو في الجملة كما فعله بعض الفقهاء المعاصرين ـ لو تمّت ـ غيرُ مقنعٍ، فإنّ استهجانهم بعض صور التعليق يرجع لعدم تعارفه، لا لعدم تصحيحهم له، وفرقٌ بينهما. والغريب أنّ بعض من ناقش في مرجعيّة التعارف وافق على مرجعيّة السيرة الإسلاميّة هنا في هذا المورد. وأبعد من ذلك ما ذكره أمثال الشيخ ناصر مكارم الشيرازي من عدم صدق العقد على العقد التعليقي! إلى غير ذلك من الأدلّة والمناقشات التي يمكن طرحها هنا، فلا نطيل.
حيدر حبّ الله
الخميس 13 ـ 1 ـ 2022م