المشهور بين فقهاء الإماميّة المتأخّرين أنّ كل غسلٍ واجبٍ أو مستحبّ ثبت وجوبه أو استحبابه بدليلٍ معتبر، فإنّه يُغني عن الوضوء، لكنّ المنسوب إلى مشهور المتقدّمين قبل القرن العاشر الهجري هو القول بأنّ جميع الأغسال لا تُغني عن الوضوء إلا غسل الجنابة، وقد وقع ذلك موقع الخلاف بين الفقهاء.
وذهب بعض الفقهاء المتأخّرين والمعاصرين لعدم إجزاء غير غسل الجنابة عن الوضوء، ومن هؤلاء: السيد أبو الحسن الإصفهاني، والسيد روح الله الخميني، والسيد محمّد رضا الگلپايگاني وغيرهم. ويظهر من السيد محسن الحكيم، والشيخ محمّد تقي بهجت، والشيخ لطف الله الصافي الاحتياط لزوماً في الإتيان بالوضوء. فيما احتاط استحباباً بالوضوء قبل الغسل من غير الجنابة السيدُ علي السيستاني، وقريبٌ منه السيد موسى الشبيري الزنجاني والشيخ جواد التبريزي. وفرّق السيد محمّد صادق الروحاني بأنّ الوضوء مع غسل الجنابة غير مشروع، أمّا مع غيره فغير واجب، لكنّه مشروع.
والذي توصّلتُ إليه هو أنّ غسل الجنابة يُغني عن الوضوء بالتأكيد؛ بشهادة الكتاب والسنّة. أمّا سائر الأغسال الواجبة (كغسل الحيض والنفاس ومسّ الميّت..) والمستحبّة (كغسل الجمعة) فلا تُغني عن الوضوء، بمعنى أنّها لا ترفع الحدث الأصغر، ولو رفعت فهي ترفع الحدث الأكبر خاصّة، ولا دليلَ على أنّ الحدَث الأصغر متضمَّن في الحدث الأكبر في غير الجنابة.
والبحث هنا لا يسعه هذا المختصر، لكن أودّ أن أشير إلى أمرٍ مهمّ هنا، وهو أنّ المعروف بينهم أنّ الروايات هنا متعارضة، لكن قد وقع خلط في تقديري عند بعض العلماء في التمييز بين:
الوضوء قبل أو بعد الغسل بوصفه جزءاً من الغسل ولو مستحبّاً، وهو الأمر الذي ذهب إليه الكثير من فقهاء أهل السنّة، ويترجّح أن يكون منظور بعض روايات أهل البيت النبوي هو نقد ذلك، والقول ببدعيّة هذا الوضوء..
والوضوء بعد الغسل لا بوصفه من أجزائه أو آدابه، بل منفصلٌ عنه تماماً ومرتبطٌ بإحراز شرط الطهارة للصلاة أو الطواف.
وعبر عمليّة التمييز هذه، والتي تُفهم من خلال رصد الفقه السنّي ورواياته، ثمّ مقارنة الروايات عن أهل البيت وتحليل كلمات بعض القدماء.. عبر عمليّة التمييز هذه يقلّ جدّاً عدد الروايات الموثوق بقولها بإجزاء الغسل عن الوضوء. وعمليّة التمييز هذه وإن أوجبت بنوعٍ ما رفع التعارض بين الأخبار بعد التأمّل فيها مجدّداً، لكنّها عقّدت موضوع الاعتماد على فرضية التقية في حلّ تعارض الأخبار لو كان موجوداً. ومن هنا نفهم كيف أنّ مشهور الفقه السنّي الذي يتحدّث عن الوضوء قبل أو بعد الغسل، معبّراً بتعابير من نوع «يسنّ الوضوء في الغسل» هو بعينه يلتزم برافعيّة الغسل للحدث الأصغر والأكبر معاً، اعتماداً على فكرة دخول الطهارة الصغرى في الكبرى، وعملاً بقاعدة: «إنّما الأعمال بالنيّات»، على تقريبٍ ذكروه في محلّه. ولو أعاد الفقيه النظر في مجموع روايات أهل السنّة والشيعة عن النبيّ وأهل بيته معتمداً على مبدأ التمييز المشار إليه آنفاً، فسوف يفهم النصوص هنا بطريقة أفضل بكثير، ولن يخلط بينها في نظري المتواضع.
وعليه، فلا أدلّة الشيعة كافية في إثبات إغناء مطلق الغسل عن الوضوء؛ لأنّها إنّما تكفي ـ بعد ما قلناه ـ بناءً على مسلك حجيّة خبر الواحد الظنّي، لا الخبر الموثوق الاطمئناني؛ بل دلالة بعض الروايات التي اعتمدوا عليها فيها نظر كما أفاد بعض كبار الفقهاء؛ إذ لازم كليّة التعليل في بعضها أنّ الإنسان يمكنه بدل الوضوء أن يغتسل، ولو لم يكن هناك موجبٌ للغسل ولو استحباباً، وهذا معلوم البطلان.. ولا أدلّة أهل السنّة أيضاً، لعدم وجود وجهٍ مقنع فيها فراجع. كما أنّه لم يثبت استحباب الوضوء قبل أو بعد الغسل بوصفه سنّة نبويّة مرتبطة بآداب الغسل وأعماله المسنونة.
حيدر حبّ الله
الثلاثاء 25 ـ 1 ـ 2022م