من الواضح أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفرائض الكبرى في الإسلام، وقد تحدّث الفقهاء عن وجوبه وشروطه وأساليبه، والذي ذهبوا إليه أنّ المكلّف كلّما رأى منكراً وتحقّقت شروط الوجوب في حقّه لزمه النهي عن هذا المنكر، وكلما رأى ترك معروفٍ من قبل شخصٍ أو أشخاص وتحقّقت شروط وجوب الأمر في حقّه لزمه الأمر بالمعروف. وهذا يعني أنّ هذه الفريضة تلاحق الوقائع الجزئيّة التي تحيط بالمكلّف، فكلّما تحقّقت واقعةٌ تمثل موضوعاً للتكليف وجبَ الأمر أو النهي.
لكنّ الذي توصّلتُ إليه أنّه لا دليل على وجوب الأمر والنهي في كل واقعةٍ واقعة، بل المأمور به هنا هو اتصاف المكلّف بكونه آمراً ناهياً، بحيث يصدق عليه عرفاً أنّه شخصٌ آمرٌ بالمعروف وناهٍ عن المنكر، مهتمّ بهذه القضيّة ومتفاعلٌ معها، حدوثاً وبقاءً، في مقابل صفة الإهمال أو اللامبالاة أو التقصير وغير ذلك. وهاتان الصفتان ـ بنحو اسم الفاعل ـ لا يُقصد منهما صدور الأمر والنهي منه مرّةً واحدة، بل يقصد منهما كون الأمر والنهي أشبه بالصفة اللازمة لهذا المكلّف، كما نقول: فلانٌ معلّم أو أستاذ، فإنّ هذه الصفة لا يكفي فيها أن يُلقي درساً واحداً في حياته على طلاب المدرسة، بل يلزم أن تكون هذه مهنته وهذا دأبه، فالواجب على كلّ فردٍ مسلم ـ تبعاً لشروط تحقّق الأمر والنهي ـ أن يتعنون بعنوان أنّه آمرٌ ناهٍ، أي أنّه شخص من عادته وسمته وصفته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يرتكب حراماً لو اتصف بذلك، لكنّه ترك الأمر والنهي في بعض الحالات. فالفرق بين ما توصّلتُ إليه وما ذهب إليه المشهور، هو أنّ المشهور يرون القضيّة ـ عند تحقّق الشروط الوجوبيّة ـ بنحو الموجبة الكليّة، أمّا بالنسبة لي فأراها بنحو (الموجَبة الأكثريّة) الموجِبة لصدق الاتصاف وخلع عنوان الآمر الناهي عليه، بحيث يصدق عليه في مجموع الوقائع الجزئية التي واجهها وتحقّقت له فيها شروط الوجوب.. يصدق عليه صفة الآمر الناهي. هذا في غير مجال التربية الأسريّة التي لها حكمها الخاصّ.
فلو كان شخصٌ من دأبه الاهتمام لقضيّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولقضيّة إصلاح المجتمع والأخلاق والدين، ويتحمّل المسؤوليّة في هذا المجال، ولكنّه في يومٍ من الأيّام صادف شخصاً يفعل حراماً فلم ينهه مع توفّر شروط الوجوب المفترَضة، ففي مثل هذه الحال يكون قد ارتكب معصيةً على رأي المشهور وتسقط عدالته بذلك، لكنّه على رأيي المتواضع لا يكون عاصياً ولا يخلّ ذلك بعدالته، والعلم عند الله.
وقد بحثت هذه القضيّة في أكثر من موضع، فانظر ـ على سبيل المثال ـ كتابي: (فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 226 ـ 232، الطبعة الأولى، دار الفقه الإسلامي، 2011م).
حيدر حبّ الله
السبت 21 ـ 5 ـ 2022م