انقسم الفقه الإسلامي في شرط ـ أو ركن ـ الإشهاد في الطلاق إلى فريقين:
الفريق الأوّل: ما ذهب إليه جمهور الإماميّة وبعض من غيرهم، وهو المنسوب للإسماعيليّة أيضاً، وهو اشتراط صحّة الطلاق بإشهاد شاهدين عدلين، فلو أُجري الطلاق بدون حضورهما، فلا قيمة له، بل يعتبر كأنّه لم يقع.
الفريق الثاني: جمهور فقهاء أهل السنّة، حيث اعتبروا أنّ الإشهاد على الطلاق غير واجب، بل هو على أبعد تقدير مستحبّ ومندوب، وخالف في ذلك منهم بعضٌ قليل جداً.
والمستند الذي اعتمد عليه الفقه الشيعي هنا هو آية (الطلاق: 2)، بعد إرجاع طلب الإشهاد فيها للطلاق، لا لخصوص الإشهاد على إمساك الرجل زوجته ورجوعه لها قُبيل انتهاء العدّة، كما ودلّت الكثير من النصوص الحديثيّة عن أهل البيت النبوي على ذلك بلا معارضٍ يُذكر.
وليس حديثي هنا في أصل الاشتراط الذي أوافق عليه وأرى صحّة ما ذهب إليه الإماميّة فيه، دمجاً بين دلالة الآية على الحكم التكليفي ودلالة الأحاديث على الحكم الوضعي. بل حديثي في موضوعيّة هذا الاشتراط أو طريقيّته، بمعنى: هل المفهوم من نصوص الكتاب والسنّة ـ بعد القول بالاشتراط ـ هو موضوعيّة حضور الشاهدين العادلين حال الطلاق، أو أنّ اشتراط الشهود ليس إلا بهدف التثبّت من وقوع الطلاق، بحيث لو وقع تنازعٌ بين الطرفين أمكن إثباتُه في المحكمة عبر الشهود، فيكون معنى أنّ الطلاق مشروط بالشهود هو أنّه مشروط واقعاً بإمكانيّة إثباته القضائي دون خصوصيّة للشهود، فلو فرضنا أنّه تمّ إشهاد ألف شخص على وقوع الطلاق، وكلّهم لم يكونوا عدولاً، لكنّ القضاء الشرعي يمكنه الموافقة على شهادتهم؛ لإفادتها العلم مثلاً، فإنّ إشهاد هؤلاء الألف كافٍ. وهكذا لو فرضنا أنّ الطلاق وقع في المحكمة، وتمّ توقيع الأطراف جميعاً وأخذت بصماتهم مثلاً، بحيث كان الموقف قضائيّاً محسوماً لصالح إثبات وقوع الطلاق، فهل نحتاج أيضاً لشهود عدول أو لا؟ إلى غير ذلك من الأمثلة المفتَرَضة.
وعليه نحن أمام احتمالين: موضوعيّة الشهود العدول، وموضوعيّة قيام الدليل القضائي على وقوع الطلاق أثناء إجراء الطلاق، والثاني أعمّ من الأوّل، كما هو واضح، وعلى التقدير الثاني يظلّ الطلاق مشروطاً بالإثبات القضائي حال وقوعه، أي إنّه مشروط باقترانه بمُثبتٍ قضائي حاسم على تقدير التنازع، فلو وقع بدون ذلك وقع فاسداً. ولعلّ المعروف الذي لا يُعلم فيه خلافٌ بين الإماميّة هو موضوعيّة الشهود العدول، بل ربما من النادر أن يبحثوا في فرضيّة الطريقيّة التي نطرحها هنا.
والذي توصّلتُ إليه هو أنّ شرط الشاهدين العدلين في الطلاق يراد به مطلق الإثبات القضائي الحجّة والحاسم، ولا خصوصيّة للشهود العدول، فأيّ وسيلة قضائيّة مُثبتة تكون مقارنةً لوقوع الطلاق وشاهدةً عليه ويمكنها إثباته على تقدير التنازع، فهي كافية. ويترتّب على ذلك ـ من جهةٍ أخرى ـ أنّ شهود الطلاق يجب أن يطّلعوا على الطلاق بحيث يمكنهم الشهادة عليه شهادةً كافية في المحكمة على تقدير الطلب منهما أن يؤدّوا الشهادة.
ومستند المشهور هنا واضح، وهو أنّ النصوص تحدّثت عن الشاهدين العدلين بما في ذلك النصّ القرآني، ولم تتحدّث عن أيّ شيء آخر، فلا معنى للتخلّي عن موضوعيّة العنوان (الشاهدين العادلين) لصالح عناوين أخرى افتراضيّة لا دلالة في النصوص عليها.
لكنّ الذي يبدو لي أنّ مفهوم الشهادة يفهم منه العرف العقلائي ـ بمناسبات الحكم والموضوع ـ المثبِتَ القضائيّ، فلو قال المشرّع: إذا وقّعتم عقداً لبيع العقار فليكن هناك شاهدان عادلان، فإنّ العرف العقلائي يفهم ـ بمناسبات الحكم والموضوع وبمعرفته بمفهوم فكرة الشهود والشهادة؛ كونه يملك خبرةً مسبَقةَ فيها أيضاً ـ يفهم أنّ المدار هنا على المثبِت القضائيّ، وأنّ القضية ترجع لمنع التنازع القضائي وأمثال ذلك، ولا يلتفت إلى احتمالاتٍ فرضيّة بعيدة عن الذهن العرفي، فتولد دلالةُ الدليل مقترنةً لُبّاً بهذا الانطباع العرفي التفسيري، وقد حقّقنا هذه الكبرى الكليّة في كتابنا (الاجتهاد المقاصدي والمناطي) وذكرنا شروط إجرائها، وقلنا بأنّه لا علاقة لها بالقياس أو كشف ملاكات الأحكام بالمعنى الكلّي الشامل، بل هي أقرب لفكرة مناسبات الحكم والموضوع التي يأخذ الجميع بها، بل تُطابقها، وحلّلنا هناك نكتة حجيّة ما يُعرف بقاعدة المناسبات.
ويتعزّز ما نقول بأنّ روايات باب شهود الطلاق بنفسها فصّلت في الشهود أنفسهم بين الرّجلين والرجل والمرأتين ونحو ذلك، ولم توافق على شهادة النساء بشكل معيّن وهكذا، وهذا يُشابه سائر الأبواب التي ورد فيها الحديث عن الشهود بوصفهم وسيلةَ إثباتٍ قضائيّ.
وأمّا أنّ الآية والروايات لم تُشِر لغير الشهود، وبخاصّة أنّ بعض الروايات سُئل فيه الإمام عن شخصٍ طلّق من غير حضور الشهود، فأجابه بأنّ طلاقه ليس بطلاق، دون أن يسأل عن توفّر مثبت قضائي آخر.. فهذا بسبب أنّ الشهود هم الوسيلة الغالبة المتوفّرة بوصفها مثبتاً قضائيّاَ آنذاك، بعد استبعاد فرضيّة الإقرار التي لا معنى لها هنا كما هو واضح، فالأزواج آنذاك لا يطلّقون مباشرةً على الملأ العام أو في المسجد مثلاً، إلا في غاية الندرة، ومعه لا موجب للتمسّك بالإطلاقات هنا، والعلم عند الله.
حيدر حبّ الله
الاثنين 2 ـ 5 ـ 2022م