يعتبر تحديد السنّ القانوني (سنّ البلوغ) بالنسبة للأنثى من القضايا التي شهدت خلافات متعدّدة في الفقه الإسلامي بمذاهبه السنيّة والشيعيّة وغيرها، ولا أريد أن أطيل في عرض الآراء، فهي بين تسع سنوات، وعشرة، واثنتي عشرة، وثلاث عشرة، وخمس عشرة، وست عشرة، وسبع عشرة، وثماني عشرة، وتسع عشرة. وبعضهم جعل المعيار هو العادة الشهريّة لقريباتها وغير ذلك. وبعضهم فصّل بين أنواع التكاليف والآثار القانونيّة، فسنّ التكليف في الصوم شيء وفي العقوبات مثلاً شيء آخر وهكذا. ومن أبرز الفقهاء والباحثين الإماميّة المتأخّرين والمعاصرين الذين طرحوا رؤى مختلفة عن المشهور هنا: الشيخ محمّد إبراهيم الجناتي، والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ يوسف الصانعي، والشيخ محمد إسحاق الفياض، والسيد محمد البجنوردي، والشيخ محمد اليعقوبي، والسيّد محمّد تقي المدرّسي، والشيخ محمّد هادي معرفت (2007م)، والسيّد محمد جواد الغروي الإصفهاني، والشيخ أحمد قابل (2012م)، والشيخ محمد الصادقي الطهراني، وغيرهم.
والذي يترجّح بالنظر فيما توصّلتُ إليه هو أنّ البلوغ يكون بالنضوج الجنسي للفتاة المصاحِب أو المتضمّن لسلسلة من التغيّرات العضويّة والنفسيّة، وعمدة علاماته الحيضُ في البنات. أمّا السنّ فأرجح الاحتمالات عندي في فهم مجموع النصوص المتعدّدة الطوائف والبيانات، احتمالان:
1 ـ أنّ العبرة هو بلوغ البنت سنّاً يكون نوعاً بملاحظة قريناتها سنّاً لبلوغ الأعم الأغلب من البنات، فلو أخذنا البلاد الحارّة في عصرنا الحاضر ولاحظنا نظام التغذية ونمط الحياة وطبيعة العيش، وقال المختصّون ـ بعد إجراء دراسات وإحصاءات ـ بأنّ هذه البلدان مثلاً يبلغ إناثها عادةً سنّ الحيض والنضوج الجنسي في الثانية عشرة من عمرهنّ، فإنّ سنّ الثانية عشرة ستكون سنّاً للتكليف والبلوغ بالنسبة لإناث تلك البلاد، ولو فرضنا أنّ السنّ هو عبارة عن تسع فسيكون الأمر كذلك، فالسنّ معيار نوعي حيث لا يتحقّق البلوغ الفعلي من خلال التحيّض الفعلي أو سائر العلامات.
2 ـ أنّ العبرة هو بلوغ البنت سنّاً يكون تحيّضها فيه ممكناً وقوعاً، فالنصوص تشير إلى أدنى مرتبة متوقّعة فعليّاً للتحيّض، فالتسع ـ مثلاً ـ هي أوّل السنوات التي يكون فيها الحيض ممكناً وقوعاً لهذه الفتاة بحسب انتمائها الجسدي، فلو صار هذا الإمكان الوقوعي عبارة عن سنّ الثانية عشرة، بحيث صار نادراً تحيض الفتيات في سنّ التاسعة، فإنّ سنّ البلوغ سوف يتغيّر.
والفرق بين الاحتمالين واضح، فسنّ البلوغ على الاحتمال الأوّل يحتاج لغلبة تحيّض البنات فيه، بينما هو على الاحتمال الثاني يحتاج فقط لعدم ندرة تحيّض البنات فيه.
وعليه، فلا يوجد سنّ شرعيّة محدّدة للأبد، لا تسع سنوات ولا عشرة ولا ثلاث عشرة ولا سبع عشرة ولا أزيد ولا أقلّ، وليست العبرة بخصوص قريباتها، بل العبرة عند عدم التحيّض الفعلي بالتحيّض النوعي الغالبي لمن هو مثلها أو بإمكان التحيّض إمكاناً وقوعيّاً مقابل الندرة. وهذا الأمر لا يُرجع فيه للفقيه ليحدّده لنا، بل يرجع فيه للحالة الغالبة في المجتمع الذي تنتمي إليه هذه الفتاة في جسدها. ومن ثمّ فيكون المناسب للمرجعيّة الدينية في كلّ عصر أن ترجع للخبراء في هذا الموضوع، كي يعطوا النتيجة العمريّة المعيّنة بعد دراسات وإحصاءات دقيقة، ويُعلن المرجع ـ مثلاً ـ أنّ سنّ البلوغ للأنثى هو كذا وكذا، وقد يتغيّر هذا الأمر بعد مرور قرون أو نتيجة عوامل طبيعيّة تغيّر بنية الأجسام ونحو ذلك، وهذا الدور الذي نقترحه للمرجع هو نفسه الذي قام به الإمام× هنا، وأطلقنا عليه عنوان «الشخصيّة الموضوعيّة للنبيّ والإمام» وبحثناه مفصّلاً في علم أصول الفقه.
وبهذا تكون روايات التسع جاءت ناظرةً لكون الفتاة في التسع مثلُها تحيض غالباً أو وقوعاً، وبهذا لا نقوم بهدر روايات التسع، بل نعيد تفسيرها وفهمها في ضوء المقاربة التاريخيّة هذه؛ نتيجة عرضها على سائر الأدلّة القرآنيّة والحديثيّة وعلى التعليلات النصيّة ومناسبات الحكم والموضوع وغير ذلك؛ لإيجاد تفسير موافق لأغلب النصوص بعيداً عن شواذّها.
والقدر المتيقّن من هذين الاحتمالين هو الأوّل، ومقتضى الاحتياط ـ على مستوى التكاليف ـ هو الثاني. وعليه فما يترتب من الأحكام الشرعيّة على مجرّد البلوغ يكون هذا معياره، أمّا الأحكام التي لا تترتّب على مجرّد البلوغ كالتي تحتاج إلى الرُّشد مثلاً ـ كرفع الحَجْر ـ فإنّ الأمر فيها يحتاج لاجتماع خاصّيتَي: البلوغ والرشد وهكذا، فلا تفصيل في سنّ البلوغ، بل التفصيل في ترتّب الأحكام والقوانين كلّها على البلوغ أو بعضها عليه وبعضها عليه مع شرطٍ إضافي، فيُرجى الانتباه جيّداً.
وأختم أخيراً ـ مع العذر عن الإطالة في عَرض هذه الخلاصة ـ بالقول: إنّه لمن المؤسف أنّه عندما طرح بعض الفقهاء فكرةَ البلوغ بسنّ الثالثة عشرة، من أمثال السيد فضل الله والشيخ الصانعي، أثير الضجيج حولهما واتهمهما العديدُ بقلّة العلم وضعف ملكة الاجتهاد أو فقدانها، أو بتسبّب فتاويهما في التحلّل الأخلاقي في المجتمع، بينما عندما لحقهما فقيهٌ آخر، وهو الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض الذي غيّر رأيه مؤخّراً إلى سنّ الثالثة عشرة، لم نسمع أيّ اعتراض أو مخاوف أو تهمة، بل مرّت فتواه ـ التي راقبنا حركتها وانتشارها ـ بسلاسةٍ وسلام!
حيدر حبّ الله
الاثنين 18 ـ 10 ـ 2021م