يذهب بعض فقهاء الشيعة إلى المنع عن زواج المرأة الإماميّة بالرجل غير الإمامي، بل نُسب إلى المشهور، ويرخّصون عادةً في زواج الرجل الشيعي من المرأة غير الشيعيّة. ولكنّ هذا القول رغم رواجه النسبي سابقاً، غير أنّه تراجع في القرون الأخيرة، وصار الفقهاء يُفتون بجواز نكاح الشيعيّة الإماميّة لغير الإمامي مع الكراهة، ويشجّعون على الاحتياط بالترك، ويستثنون حالة ما إذا خيف على المرأة الضلال عن المذهب الحقّ لو تزوّجَت برجلٍ من مذهبٍ آخر، فيحرم الزواج.
وأمّا الفقه السنّي، فنجد عنده أيضاً، وبخاصّة في الوسط السلفي، تحذيراً من الزواج بين الشيعي والسنّيّة وبالعكس مطلقاً، وأحياناً مع تفصيل في نوعيّة الشيعي من حيث موقفه وسلوكه مع الصحابة وأمثالهم.
والذي توصّلتُ إليه أنّه لم يثبت بعنوانه حرمة ـ ولا حتى كراهة ـ التزاوج بين أبناء المذاهب الإسلاميّة مطلقاً ذكوراً وإناثاً، عدا النواصب والغلاة، بل لم يثبت بطلان عقد الزواج هذا لو وقع حتى لو قلنا بحرمته. نعم، لو لزم من زواج الرجل أو المرأة لغير أهل مذهبه الخوف على دينه خوفاً عميقاً وحقيقيّاً، فضلاً عن العلم بذلك، لزم الاحتياط بالتجنّب. وهذا لا يختصّ بزواج أبناء المذاهب الإسلاميّة فيما بينهم، بل يشمل زواج الشيعيّة من الشيعي والسنيّة من السنّي، لو كان في زواجها أو زواجه ما يحصل معه العلم بترك دينه أو خروجه عن الشريعة ومعالمها الأساسيّة، كما لو كان فاسقاً متهتّكاً يُعلم أنّه سيجرّ زوجته لكبائر الذنوب، فهو عنوان ثانوي. بل حتى لو قلنا به فإنّه يُثبت التحريم بوصفه حكماً تكليفيّاً، لكنّه من الصعب أن يُثبت بطلان العقد لو فعله الرجل أو المرأة، كما تُلمح إلى ذلك أيضاً ـ أعني التمييز بين الحكم التكليفي والوضعي هنا ـ عبارات أمثال الشيخ فاضل اللنكراني والسيّد محمود الهاشمي.
والأدلّة العامّة والنصوص الكليّة في الكتاب والسنّة تقف لصالح الترخيص هنا، بل الشواهد التاريخيّة والسيرة العمليّة يؤكّدان ذلك. أمّا ما استُدِلَّ به للمنع، فعُمدته ـ بعد تخطّي دعوى الإجماع ومدركيّته ـ ظاهر في النهي عن الزواج من الناصبي لا مطلقاً. كما أنّ النصوص التي تدلّ على تزويج من نرضى بخلقه ودينه، لا تثبت المنع عن تزويج غيره إطلاقاً، بل هي تحثّ على عدم التمنّع عن تزويج من نرضى بخلقه ودينه. وأمّا ما دلّ على حصر تزويج الشيعيّة بالشيعي (العارفة بالعارف وفقاً لتعابير الروايات) فهو قليل العدد جدّاً وضعيف السند، بل بعضه غير واضح في الشمول لغير النواصب. وأمّا ما دلّ على النهي عن التزويج من الشكّاك، فهو ـ فضلاً عن قلّة عدده وكونه خبراً آحاديّاً ـ أجنبيّ عن المقام أو غير معلوم الارتباط على الأقلّ، وإن فَهِم منه غير واحدٍ ارتباطه بالمقام؛ لأنّ مفهوم الشكّاك غير واضح في الروايات هنا، بل ثمّة قرائن ترجّح أنّ المنظور هو التيار الشكّي المعبّر عنه بالزنادقة وأمثالهم في القرون الأولى، والذين كان ـ خلافاً لما يتصّور كثيرون ـ لهم حضور غير قليل في الحياة الإسلاميّة آنذاك، ولهم قراءاتهم النقديّة للأديان التاريخيّة، ولمفهوم النبوّة والمعجزات، ولبنية التشريعات الدينيّة، وغير ذلك مما يشبه كثيراً الإثارات النقديّة على الدين التي تُطرح اليوم. بل لعلّ هناك ما يفرّق بين الشكّاك وبين المخالفين من حيث احتماليّة أنّ الشكّاك أكثر خطراً؛ لكونهم يدمنون إثارة ما يُضعف العقيدة، بخلاف غير المعتقد بالمذهب الصحيح، فربما لا يكون ممن يهمّه هذا الأمر إطلاقاً. فلم يتحصّل دليلٌ مقنع على تحريم التزاوج بين أبناء المذاهب ولا حتى الكراهة.
هذا، وكانت لي بعض المداخلات النقاشيّة الفقهيّة المختصرة حول هذا الموضوع، يمكن مراجعتها في كتاب (إضاءات 2: 333 ـ 335، الطبعة الأولى، 2013م).
حيدر حبّ الله
الأربعاء 2 ـ 3 ـ 2022م