ذكر عددٌ كبير من فقهاء أهل السنّة استحباب تأخير السحور ـ ما أمكن ـ إذا أراد الصيام، بل أفرد بعض المحدّثين منهم باباً في كتبهم الحديثيّة تحت هذا العنوان، ويظهر القول بهذا الاستحباب (أو الأفضليّة) من قبل بعض فقهاء الشيعة، مثل العلامة الحلّي في (منتهى المطلب 9: 441؛ وتذكرة الفقهاء 6: 232).
والذي توصّلتُ إليه أنّه لم يثبت استحباب تأخير السحور، بل غايته أفضليّة السحور، وبخاصّة في شهر رمضان المبارك، أمّا تأخيره أو تقديمه فهذا مرتبطٌ بتحقيق غاية السحور، وهو التقوّي على الصيام وعدم إضعاف الجسد، فليس هناك حكمٌ مستقلّ قائم بعنوانه اسمه “تأخير السحور“.
وقد استدلّوا ببعض الروايات ومنها: خبر زيد بن ثابت، قال: «تسحّرنا مع رسول الله‘. قال: ثمّ قام إلى الصلاة. قال: قلت: كم كان بين الأذان وبين السحور؟ قال: قدر قراءة خمسين آية» (سنن الدرامي 2: 6؛ وسنن ابن ماجة 1: 540؛ وسنن الترمذي 1: 104)، وكذلك خبر سهل بن سعد، قال: «كنت أتسحّر في أهلي، ثمّ تكون سرعتي أن أُدرك السجود مع رسول الله‘» (صحيح البخاري 2: 231)، وقد ورد أيضاً ما يشبه هاتين الروايتين.
لكنّ مثل هذه الروايات لا يفيد دلالةً، حتى لو تمّ سنداً، وذلك أنّ مجرّد وقوع سحورٍ واحد هنا أو هناك من النبيّ في هذا الوقت لا يفيد السنّة الشرعيّة كما حُقق في علم أصول الفقه، بل حتى لو تكرّر بلا قرينة إضافيّة لا ينفع؛ لاحتمال أنّ النبيّ شخصاً يشعر بأنّه يحتاج ـ للتقوّي أكثر على الصيام ـ إلى تأخير السحور، فما لم تكن إشارة من النبيّ أو قرينة حافّة على شرعيّة ودينيّة هذا السلوك، فإنّ مثل هذه الأمور لا تكون دالّة على حكم شرعي أوّلي بعنوانه في أصل الشرع، كما تقرّر في باب حجيّة الفعل النبويّ. كما أنّ عادة هذا الصحابي أو ذاك ليست حجّةً على المسلمين ما لم تكشف عن الموقف الشرعي النبويّ، أو تدلّ على سيرة متشرّعية قادرة على الكشف عن توجيهٍ نبوي أوّلي في هذا الصدد. كما استدلّوا بروايات قليلة أخَر أفضل دلالةً، لكنّها مناقشة إسناداً، حتى لو وردت إحداها في صحيح مسلم، فلا نطيل.
واستدلّ العلامة الحلي بخبرٍ إماميّ، فقال: «ومن طريق الخاصّة: ما رواه الشيخ أنّ رجلاً سأل الصادق×، فقال: آكل وأنا أشكّ في الفجر، فقال: كل حتّى لا تشكّ» (منتهى المطلب 9: 442).
ولكنّ هذه الخبر لا علاقة له بموضوع بحثنا كما هو واضح، وقد ناقشه الخوانساري في (تكملة مشارق الشموس: 443) بأنّه لا يدلّ سوى على الرخصة، وقريبٌ منه ما ذكره التقيّ المجلسي في (روضة المتقين 3: 380). ومناقشتهما في محلّها. نعم نقل القاضي النعمان مرسَلاً فقال: «وروينا عن عليّ ـ صلوات الله عليه ـ أنّه قال: السنّة تعجيل الفطر، وتأخير السحور، والابتداء بالصلاة» (دعائم الإسلام 1: 280). ولكنّ هذا الخبر فاقدٌ للإسناد لا يعتمد عليه كما هو واضح، وشبيهه موجود في المصادر السنيّة.
ولهذا لم يسلم دليلٌ موثوقٌ بصدوره ودلالته على استحباب تأخير السحور بعنوانه، إنّما العبرة بالسحور المحقِّق للغرض من وجوده ولفلسفة مطلوبيّته وحُسنه. وبهذا يظهر أيضاً ضعف الاستدلال الذي أقامه بعضهم من خلال بعض الوجوه الاعتباريّة.
حيدر حبّ الله
الأربعاء 5 ـ 4 ـ 2023م