حكم جمهور الفقهاء بحرمة نبش قبر المؤمن بحيث يظهر جسده، ما لم يصبح تراباً، فيجوز؛ لانعدام الموضوع، بما يوحي وكأنّ هذا الحكم قائم بنفسه في الشريعة الإسلاميّة، الأمر الذي دفعهم للحديث عن استثناءات لهذا الأمر لها دليلها وتبريرها الخاصّ، مثل ما لو دفن في الأرض المغصوبة، أو كان في النبش مصلحة الميّت ـ مثل ما لو كان مدفوناً في مكان مهينٍ له كالبالوعة أو المزبلة ـ أو أريد نقله إلى المشاهد المشرّفة، أو عارضه أمر أهمّ كما لو توقّف دفع مفسدة على كشف جسده، أو غير ذلك من الموارد التي ذكروها.
غير أنّ وجهة نظر أخرى اعتبرت أنّه لا يوجد في الشريعة حكمٌ مستقلّ عنوانُه حرمة نبش القبور، بل المحرّم هو هتك حرمة الميّت، فلو لزم من النبش هتك حرمة الميّت الذي حرمتُه في حال الموت كحرمته في حال الحياة، حرم النبش، أمّا لو لم يلزم الهتك جاز النبش. وممّن أخذ بوجهة النظر هذه في بحوثه السيدُ أبو القاسم الخوئي، وصرّح بها في الكتب الفتوائيّة جماعة مثل الشيخ محمّد أمين زين الدين والسيد كاظم الحائري، وغيرهما. وصرّح السيد محمّد سعيد الحكيم بحرمة النبش مع لزوم الهتك وأمّا النبش إذا لم يلزم منه هتكٌ فحرمتُه مبنيّةٌ عنده على الاحتياط الوجوبي.
والذي توصّلتُ إليه ـ والعلم عند الله ـ هو أنّه لا حرمة في نبش القبر بعنوانه، إنّما المحرّم هو هتك حرمة الميّت المحترم أو أيّ شخص آخر يلزم من النبش هتكُ حرمته، فلو لزم من نبش القبر أو غيره هتكٌ لحرمة الميّت حرم، وإلا فلا يحرم من الأوّل. ويترتب على ذلك أنّ المرجع في تعيين الموقف هو العرف، فلو نُبش قبر ميتٍ مات قبل خمسين سنة كي ُيدفن في موضعه ابنُه أو حفيده، جاز حتى لو كانت العظام باديةً وظاهرة ولم يتحوّل بعدُ إلى تراب أو نحو ذلك، ما دام العرف لا يرى في ذلك أيَّ هتك، وهكذا لو أريد من النبش النقل للمشاهد المشرّفة وتُلُقّيَ هذا الأمر على أنّه كرامة للميّت وليس هتكاً له، جاز. وبهذا يتبيّن أنّه لو وُضع الميّتُ في سرداب أو غرفة تحت الأرض مثلاً، جاز فتح بابها لدفن ميّتٍ آخر حتى لو ظهر جسد الميّت الأوّل أثناء قيامهم بوضع الميّت الثاني، ما دام لا يلزم هتكٌ، إلى غير ذلك من الموارد. كما وبهذا يظهر أيضاً أنّه لو تمّ نبش قبر ولم تظهر جثّة الميّت لكن كان يلزم من النبش بهذا المقدار هتكُ حرمة الميّت حرُم ذلك، فالعبرة بالهتك لا بالنبش محضاً ولا بظهور الجسد بعنوانيهما.
وانطلاقاً مما أسلفناه تصبح بعض المستثنيات التي أشار إليها الفقهاء هنا خارجةً عن مفهوم الاستثناء؛ لأنّها في الحقيقة ليست سوى انعدام لعنوان الهتك في موردها، فخروجها تخصّصي وليس تخصيصيّاً.
وقد ذكر العلماء أنّ قبور الأنبياء والأئمّة وأولادهم والشهداء والعلماء والصلحاء لا يجوز نبشها مطلقاً حتى لو صارت تراباً، وفصّل بعضهم بين حالة ما لو صارت مزاراً فيحرم، وعدمه فيجوز أو يحرم على الاحتياط. والحقّ أنّه لا دليل على شيء من ذلك بعنوانه، إنّما المحرّم هو حيثيّة الهتك الراجعة للعقل الجمعي عند العرف، غاية الأمر أنّ قبور مثل هؤلاء لها خصوصيّة ما فوق فرديّة، فهي لا تمثل الفرد الميّت أو أسرته فقط، بل قد تمثل أحياناً هويّةً رمزيّة جمعيّة، أو وجوداً رمزيّاً دينيّاً فيصبح التعامل معها تعاملاً مع مجتمع بأكمله أو مع هوية دينيّة، فتأخذ لنفسها وضعاً إضافيّاً، وبهذا قد يصير الاعتداء عليها اعتداءً على الدين أو على المجتمع كلّه، فإذا لزم من نبش أحد هذه القبور شيء من ذلك كان محرّماً قطعاً، وإلا فلا دليل على التحريم. وبهذا يظهر أنّه مع الهتك هنا يحرم النبش حتى لو لم تكن هناك جثّة أصلاً بادية في القبر، فالمعيار هنا أيضاً هو الهتك للأفراد أو للجماعة أو لدين الله. بلا فرق بين كون هذا القبر أو ذاك قد اتخذ مزاراً من قبل الناس أو لا، نعم قد يكون اتخاذه مزاراً معزّزاً لاعتبار النبش هتكاً عرفاً، فانتبه.
ومن مجموع ما أسلفناه يُفهم أنّ مسألة نبش القبور والتعامل معها ليست مسألة تعبديّة، بل هي تجلٍّ لفقه العلاقات الاجتماعيّة وحُرمة الأفراد والجماعات والرمزيّات الدينيّة.
وتفصيل البحث الاستدلالي في محلّه، فلا نطيل هنا.
حيدر حبّ الله
الخميس 22 ـ 9 ـ 2022م