تحدّث الفقهاء بإسهاب عن الغيبة وأحكامها، وهي من المحرّمات التي نهى عنها القرآن والسنّة بدرجة تشدّدٍ عال. ومن جملة ما بحثه الفقهاء هو الاستثناءات من حرمة الغيبة، فما هي الحالات والموارد التي يجوز فيها اغتياب شخص بوصف ذلك استثناءً من مبدأ التحريم؟ وقد ذكر الفقهاء العديد من هذه الاستثناءات كالمتجاهر بالفسق وموارد الاستشارة وغير ذلك. وأحد هذه الموارد التي ذكروها وقد تمّ إدراجها في العديد من الرسائل العمليّة اليوم، هو «القدح في المقالات الباطلة ولو أدّى ذلك إلى نقص في قائلها»، والمراد بهذا الاستثناء أنّه يجوز تعرية المقالات الباطلة حتى لو كان ذلك يؤدّي إلى اغتياب أصحاب هذه المقالات والآراء الباطلة، وعادةً ما يطلق هذا التعبير بدون تعريف محدّد ودقيق، لكن يمكن فهم مرادهم إجمالاً من تجميع كلماتهم في مختلف الأبواب، بأنّهم أصحاب الآراء الشاذّة أو المنحرفة، بل يتسع التعبير ليشمل مختلف الآراء غير الصحيحة، بما قد يشمل المجال الفكري والعقدي والفقهي والسياسي ونحو ذلك. وربما يدرجون هنا أصحاب البدع، غير أنّ العديد من الفقهاء ذكروا أصحابَ البدع في استثناءٍ منفصل عن استثناء أصحاب المقالات الباطلة. ورغم أنّ هذه التعابير هي أيضاً مبهمة في تقديري، لكن على أيّة حال يمكن فهم الفكرة بشكل عام وإجمالي من خلالها.
وقد مثّل بعض العلماء لاغتياب أصحاب المقالات الباطلة بأنّ مقالته تنمّ عن قلّة التفكر، وسوء الفهم، وضعف البصيرة، والجهل، والقصور، وضحالة المعرفة وغير ذلك مما ذكروه أو لم يذكروه من أمثلة.
وقد علّق بعض الفقهاء ـ مثل السيد تقي القمي ـ على هذه الفتوى بالقول: «الإنصاف أنّ الجزم بالجواز مشكل؛ فإنّ بيان الحقائق لا يتوقّف على سوء التعبير»، وأضاف الشيخ محمّد السند على الفتوى قائلاً: «وإن كان الأولى تركيز القدح في المقالة بنحو لا يسري إلى قائلها»، فيما عبّر السيد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي بالقول: «ردّ المقالات الباطلة إذا كان ذلك لا يتمّ إلا بذكر اسم صاحب المقال».
وبعيداً عن النص الوارد في غيبة أو بهتان أهل البدع، والذي تحدّثنا عنه سابقاً وناقشنا فيه، وقلنا بعدم جواز بهتان أهل البدع، فإنّه لا يوجد نصّ من آية أو رواية يفيد الترخيص في غيبة أصحاب المقالات الباطلة، فهذا العنوان ـ لو فصلناه عن عنوان أهل البدع ـ لما رأينا له وجوداً في النصوص، لكنّ الفقهاء ملتفتون لذلك وهم ينظّرون لفكرة استثناءات الغيبة ليس على أساس النصوص الخاصّة فحسب، بل على أساس قاعدة عامة، وهي فقه التزاحم والضرورات، فهم ـ كما صرّح بعضهم هنا ـ يرون أنّ «وجوب حفظ الحقّ وإضاعة الباطل أهمّ من احترام المقول فيه» على حدّ تعبير السيد الخوئي. ومن هنا طبّقوا قاعدة التزاحم وفقه الأولويات والضرورات لتبرير غيبة أهل البدع وأهل المقالات الباطلة والانتقاص منهم.
والذي توصّلتُ إليه ـ والله العالم ـ أنّه لا يجوز غِيبة ولا بهتان، لا أهل البدع ولا أصحاب المقالات الباطلة، وهذا على مقتضى العنوان الأوّلي، فلا يعدّ هذا من الاستثناءات، فعندما نقول: «مستثنيات الغيبة»، فهذه ليست مستثنيات. وأمّا القول بأنّ المرجع في ذلك فقه الأولويّات أو فقه التزاحم، ففي مثل هذه الحال لا نستطيع إصدار فتوى تحمل طابعاً إطلاقيّاً بحليّة غيبة أصحاب المقالات الباطلة أو أهل البدع، ووضعها في الرسالة العمليّة، كما هو دأب غير واحدٍ من الفقهاء اليوم؛ لأنّ هذه الطريقة تعني أنّ الغيبة هنا جائزة مطلقاً على موضوعها، وهم أصحاب المقالات الباطلة بما لهذا العنوان من دائرة واسعة، في حين أنّ هذا الجواز هو جواز ثانوي، والترخيص الثانوي لا يُعطى ضمن صياغة فتوائيّة إطلاقيّة دون بيان قيده الثانوي، بل ينبغي هنا أن تقدّم القاعدة للمكلّف، وعليه هو أن يشخّص هل ينحصر طريق الدفاع عن الحقّ (الذي ثبت وجوب الدفاع عنه، لا مطلق الحقّ) بالغيبة والبهتان حتى يتحقّق موضوع التزاحم وفقه الأولويات؟ وهل المفسدة الناشئة من الغيبة والبهتان أقلّ من تلك الناشئة من الباطل الموجود في هذه المقالة أو تلك؟ وهذه الحسابات يقوم بها المكلّف، ولا يعيّنها له الفقيه بما هو فقيه، ما لم يكن هناك شيء مرتبط بحكم الحاكم، فلعلّ المكلّف يرى اليوم أنّ استخدام أسلوب الغيبة والبهتان في حقّ أصحاب المقالات الباطلة له مردود سلبي أكبر من مردوده الإيجابي، فكيف يجري قاعدة التزاحم أو فقه الأولويّات؟! من هنا فتعبير بعض الفقهاء كالشيخ الأنصاري في مكاسبه بأنّ ذلك لو توقّف إبطال الباطل عليه أفضل من تعابير الرسائل العملية المعاصرة التي تابعت فيما يبدو السيدَ محسن الحكيم دون تعديل يُذكر في صياغة الفتوى رغم كونه تعديلاً بالغ الأهميّة.
بل مقتضى آداب الحوار وأخلاقيّة البحث والنقاش هو احترام الطرف الآخر وفق ما أمر به القرآن الكريم من الجدال بالتي هي أحسن ونحو ذلك حتى مع غير المسلمين، فهل الغيبة والبهتان في سياق النقاش والنقد ـ كأن نقول ونحن نكتب مقالة نقديّة لفكرة باطلة: «وهذا دليل على جهل الكاتب وحماقته» ـ مصداقٌ من مصاديق الجدال بالتي هي أحسن؟! ألا يمكن نقد المقالة الباطلة وتبيين أخطائها ونصرة الحقّ مقابلها دون التعرّض لقائلها بالطعن؟ فإنّ مجرّد نقد المقالة لا يتضمّن غيبةً لقائلها؛ إذ نقدها غير نقد صاحب المقالة في ذاته وليس تبييناً لعيبٍ من عيوبه، علماً أنّه ليس كلّ حقّ يجب الدفاع عنه، فلو كتب شخصٌ كتاباً وفيه أخطاء، فإنّه لا يجب ردّه دائماً، حتى نتخذ ذلك ذريعة لإجراء قانون التزاحم. وكأنّه حصل خلط في كلمات بعضٍ بين مجرّد تبيين الحقيقة ونقد الباطل وبين غيبة صاحب الباطل، مع أنّه لا يرى العرف ذلك، فالحديث عن توقّف ردّ الباطل المستبطَن في المقال على غيبة صاحبه يكاد يكون حديثاً عن أمرٍ نادر.
أمّا ما قد يلوح من استدلال بعضهم بسيرة العلماء، فقد تكلّمنا سابقاً أنّ سيرتهم لا يحتجّ بها، بل هي تحتاج إلى دليل لتبريرها، وغاية ما نقوله بأنّهم معذورون ـ إن شاء الله ـ فيما بينهم وبين ربّهم، فلعلّ لديهم تبريرهم في قسوة التعابير وعنفها في أدبيّاتهم، لكنّ سيرتهم ليست حجّة إلى جانب الكتاب والسنّة، ولنِعم ما قاله الشيخ الأنصاري هنا: «وأمّا ما وقع من بعض العلماء بالنسبة إلى من تقدّم عليه منهم، من الجهر بالسوء من القول، فلم يُعرف له وجهٌ، مع شيوعه بينهم من قديم الأيّام»، فهو يقرّ بشيوع ظاهرة العنف اللغوي واللساني بين العلماء، ولا يرى له مبرّراً معقولاً. فالأولى بمن أراد الحقّ أن يعرض سلوك العلماء على الكتاب والسنّة، ثمّ يحكم، وليس العكس، نعم يلزمه قبل ذلك أن يستمع منهم إلى تبريرهم، فلعلّ لديهم دليلاً من الكتاب والسنّة يؤيّد سلوكهم هذا أو ذاك.
حيدر حبّ الله
الاثنين 16 ـ 5 ـ 2022م