تحدّث الفقهاء عن حكم ما لو اختلط المسكر بالطعام أو الشراب، فهل يحرم هذا الطعام أو الشراب أو لا؟ فلو سقطت قطرات في ماء كثير أو قليل فهل يُصبح شرب هذا الماء حراماً أو يصبح شرب المسكر الذي اندمج في هذا الماء حلالاً؟ هذا ما يعرف بكسر النبيذ أو المسكر، فإنّ عمليّة الخلط هذه تكسر قدرة الإسكار فيه، فهل يتغيّر الموقف أو لا؟
هذه المسألة تصبح أوضح عندما نقول بطهارة المسكر أو بعدم حرمة تناول المتنجّس، بل هي تشمل حتى لو قلنا بنجاسة المسكر وحرمة المتنجّس؛ كما لو سقط مسكرٌ في ماءٍ كثير فاق حدَّ الكرّ دون أن يتغيّر هذا الماء في طعمه ولا في لونه ولا في رائحته.
والبحث في هذه القضيّة مهمّ للغاية، لاسيما في مثل عصرنا، حيث يتمّ إدخال الكحول في الكثير من الأغذية والأدوية والمصنَّعات لأغراض طبيّة أو لها علاقة بنكهات الأطعمة أو غير ذلك، فلو كانت النتيجة هي الحلّية أمكن الترخيص في هذا كلّه، وإلا التزم بالحرمة.
وقد أصدر السيّد علي السيستاني فتوى بالترخيص هنا في ما تنتجه المصانع الكبيرة، أحدثت بلبلة في بعض الأوساط، ثمّ استفتي لتوضيح موقفه، فرأى أنّ المسكر من جهة قلّته واختلاطه بغيره أصبح معدوماً عرفاً، فلم يبقَ منه شيء يعدّ حراماً، نعم لو كان يتناول نفس تلك الكحول ولو قطرة واحدة كان حراماً. كما أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلميّة والإفتاء في المملكة العربيّة السعوديّة فتوى تحرّم الكحول التي في العطور على تقدير كون شرب العطور نفسها مُسكراً ولو كثيره، وإلا فيجوز. والمسموع من (وعن) الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ ابن عثيمين الترخيص لو كانت الكحول بنسبة ضئيلة جداً.
إنّ ذهنية الفتوى الأولى والثانية تنطلق من الفهم العرفي، فلا تؤخذ الكحول في نفسها بعد اندماجها بالطعام أو الشراب أو الدواء، بل يؤخذ المشروب أو المطعوم نفسه ملاحظين حالته الإسكاريّة أو إفادته للنشوة التي تمثل بداية السُّكر أو السُّكر الخفيف، فهذا النظر العرفي القائل بانعدام الكحول عرفاً هو المرجع لنا هنا، تماماً كما لو أخذت سمّاً أخَذَ حرمتَه من صفة إضراره لا من صفة ذاته، ووضعت مقداراً قليلاً جداً منه في طعام أو صنّعته بطريقة أدخلته في مشروب، لكن بحيث لم يعد مضرّاً، فالحكم هنا ليس بالنظر إلى تلك الجزيئات المضافة، بل بالنظر إلى صفة الإضرار. ومن هذا القبيل ما لو تلاشى البول في ماءٍ كثير دون أن يتنجّس، جاز شرب الماء وهكذا.
والأمر هنا يشبه هذا، فصفة الإسكار تلاشت بوضعك الكحول في الأدوية أو المصنّعات العطوريّة أو الغذائيّة تلاشياً فعلياً، وإن كانت لو استُخرجت مرّةً أخرى ونُظر لها لوحدها لكانت حراماً، كما ألمح السيستاني إلى ذلك.
والذي توصّلتُ إليه هو أنّ الكحول والمسكرات التي تكون في هذه المشروبات والأدوية والمطعومات حيث هي في الغالب مستهلَكة ومنعدمة عرفاً ومسلوبة الصفة حقيقةً بعد طروّ التركيب الجديد عليها، جاز شربها، شرط أن لا يكون المطعوم أو الدواء أو المشروب مسكراً بنفسه ولو من حيث الكثرة. فلا يحرم التناول هنا ولا تجري عليه أحكام العقوبات والحدود.
والمتحصّل جواز تناول الطعام أو الدواء أو الشراب الذي وضع فيه المسكر أو الكحول ولم يعد مسكراً بشرط التلاشي في سائر الأجزاء بحيث لا تعود تظهر لوحدها (كما لو كانت تظهر بعينها على أعلى الماء مثلاً)، ففي هذه الحالات وأمثالها يحكم بالحليّة. وهذا يعني أنّه لو أضيف المسكر إلى مقدار كبير من ماء أو عصير أو طعام ـ كما في المعامل والمصانع الغذائيّة والدوائيّة ـ بحيث استهلك فيه أو لم يعد يتميّز عرفاً، ومع ذلك لم يكن الطعام مسكراً ولو بإسكارٍ خفيف، فهنا لا دليل على الحرمة.
ولمزيد توسّع، يمكن مراجعة كتابي (فقه الأطعمة والأشربة 3: 122 ـ 138، الطبعة الأولى، 2020م).
حيدر حبّ الله
الجمعة 3 ـ 6 ـ 2022م