يتحدّث الفقه الإسلامي عن تحريم تناول الدم، وقد نصّ القرآن الكريم والعديد من نصوص السنّة الشريفة على تحريم تناول الدم، والسؤال الذي طرح في الفقه الإسلامي هو أنّ الدم المحرّم هل هو مطلق الدم أو خصوص الدم المسفوح؟ والمراد بالمسفوح المصبوب، بحيث تكون كميّة الدم قابلة للصبّ، وقد كان العرب قبل الإسلام يضعون الدم في المباعر (وهي الأمعاء وأمثالها)، ثم يقومون بشويه، ويقدّمونه للضيوف، وبهذا يطرح سؤال: هل تناول نقطة أو نقطتين من الدم حرام أو لا؟ ويترتب على ذلك أيضاً أنّ الدم الذي يكون في البيض (وبحسب تعبير الفقهاء: العلقة في البيضة) هل هو حرام أو لا؟
المعروف في الفقه الإسلامي حرمة تناول الدم مطلقاً قليلاً كان أو كثيراً مع بعض الاستثناءات التي أبرزها الدم التابع للحم في العروق الصغيرة جداً بعد انتهاء ذبح الذبيحة وخروج دمها منها، فإنّ هذه الجزيئات الصغيرة جداً ـ لا النقاط المجتمعة ـ والتي تحتاج لعلاج وتكلّف حتى تخرج، يجوز تناولها مع اللحم. ومن المعروف أنّ الفقه اليهودي يرى حرمة تناولها، ولهذا فلليهود طرق خاصّة لإخراج هذا الدم كي لا يتمّ تناوله مع اللحم.
والذي توصّلتُ إليه ـ بنظري المتواضع ـ هو:
1 ـ إنّ الدم المسفوح حرام من كلّ حيوان محلّل الأكل أو محرَّمه، نجساً كان الدم أم لا، خبيثاً أم لا، للحيوان نفس سائلة أم لا. ولعلّه من هذا يظهر حكم الأطعمة الرائجة اليوم في الكثير من بلدان العالم من ألوان الدم (blood as food).
2 ـ إنّ الدم التابع للحم والذي لا يظهر إلا بإعمال وتكلّف، جائزٌ أكله مع اللحم ونحو ذلك.
3 ـ إنّ الدم الذي ما بين التابع والمسفوح، وهو الذي يكون كالقطرة أو القطرتين يتناولهما الإنسان أو يكونان على شفتيه أحياناً نتيجة قضمه لجلده، أو يكونان في الطعام أو الشراب، ولو لم يستهلكا.. هذا الدم لم يثبت أنّ معيار الحرمة والحليّة فيه هو في نجاسته وطهارته، ولا في كونه من حيوانٍ له نفس سائلة وغيره، ولا في كونه من حيوان برّ أو بحر أو جوّ، ولا في كونه خبيثاً وغيره، ولا غير ذلك.. إنّما المعيار فيه هو: إذا كان من حيوان محرّم الأكل بتمام أجزائه لا أنّه يحرم أكل لحمه فقط مثلاً، فيكون أكل هذا الدم أو شربه محرّماً بملاك حرمة الحيوان نفسه، لا بملاك حرمة الدم. وبهذا نعرف أنّ دم الحيوان الميتة، أي الذي مات حتف أنفه، حرامٌ مطلقاً ولو لم يكن مسفوحاً.
وأمّا إذا كان هذا الدم من حيوان محلّل الأكل أو لم يثبت سوى تحريم لحمه مثلاً، فهو جائز حيث لا يكون مسفوحاً؛ بلا فرق في ذلك بين عناوين المتخلّف في الذبيحة وغيره، وبين عنوان السمك وغيره، مما رأيناه في كلمات الفقهاء، فإن هذا كلّه لم يرد فيه نصّ خاص في باب الأطعمة والأشربة.
4 ـ ومن نتائج البحث فيما تقدّم، أنّ الدم الذي يكون أحياناً في البيض (العلقة في البيضة)، حيث لا يكون مسفوحاً ولا يشمله دليل حرمة الحيوان ـ لكونه في البيض المنفصل ـ ولم يتم دليل على حرمة كلّ نجس أو خبيث، كما تحدّثنا عن ذلك سابقاً، فإنّ أكله وأكل ما اتصل به يكون جائزاً مطلقاً، فلا داعي لتكلّف إخراجه.
5 ـ إنّ قطرات الدم التي تكون في اللبن عند الحلب أو بعده، إذا كان الحيوان صاحب الدم حلال الأكل كالأنعام فإنّه يكون حلالاً مع اللبن، وإلا فإذا كان من دم حيوانٍ محرّم الأكل بتمام أجزائه حرُم في هذه الحال، بلا فرقٍ بين القول بنجاسة هذا الدم أو لا؛ لأنّنا قلنا سابقاً بأنّه لم تثبت حرمة تناول النجس بعنوان أنّه نجس.
6 ـ إنّ الدم الذي يكون في القلب والكبد، والذي اختلف الفقهاء في حكمه، فمال للحرمة الشهيد الثاني، وحكم بالحلّية بعض الفقهاء.. هو ـ حيث لا يكون مسفوحاً ـ تابعٌ للحيوان في الحلّية والحرمة بالطريقة التي أسلفناها.
ولمزيد توسّع حول هذا الموضوع وأدلّته ومناقشاته، راجع كتابي (فقه الأطعمة والأشربة 1: 130 ـ 139، و 2: 403 ـ 422، الطبعة الأولى، 2020م).
حيدر حبّ الله
السبت 23 ـ 4 ـ 2022م