تلقّي الركبان مفهومٌ يتحدّث عنه الفقهاء، ويعني أن يقوم التاجر بالخروج من البلد لتلقّي القافلة التجاريّة القادمة للبلد، وشراء الأمتعة منها، ولا يكون لهذه القافلة علمٌ بطبيعة الأسعار في البلد، فيقوم بشراء الأمتعة والبضائع بالسعر الذي يناسبه، ثمّ يبيعها داخل البلد.
وقد ذهب الكثير من الفقهاء للحكم بكراهة تلقّي الركبان، ومن هؤلاء كثيرٌ من فقهاء الإماميّة، فيما ذهب بعضٌ للقول بالحرمة، ومنهم كثير من فقهاء أهل السنّة، في الوقت الذي صرّح بعضهم بصحّة المعاملة رغم الحرمة، حيث فهم جماعةٌ أنّ الحرمة متعلّقة بالتلقّي ذاته لا بالمعاملة نفسها. وفي العصر الحاضر يتعارف بين الفقهاء إمّا الحكم بكراهة تلقّي الركبان (وبعضهم على قاعدة التسامح ليس إلا) أو الإعراض عن ذكر هذه المسألة في الكتب الفقهيّة العمليّة أساساً.
وقد تحدّث الفقهاء عن الحدّ والمسافة التي إذا خرجها التاجر يصدق عليه تلقّي الركبان، فقالوا بأنّها أربعة فراسخ، أي ما يزيد عن عشرين كيلومتراً بقليل تقريباً، فلو أنّه خرج وتلقّاهم في مسافة أبعد من ذلك لم تكن هناك حرمة ولا غيرها، إذ يعتبر الفقهاء ذلك نوعاً من السفر للتجارة وجلب البضائع، وبعض الفقهاء من الشافعيّة لم يضعوا حدّاً ومسافةً لصدق عنوان تلقّي الركبان، بل يبدو أنّهم تركوا القضيّة للعرف ومتغيّراته. وعمّم بعض الفقهاء الحكمَ للبيع من القافلة التجاريّة أو الشراء منها لا فرق في ذلك عندهم.
والمعروف بينهم اختلاف مفهوم بيع الحاضر لبادٍ عن مفهوم تلقّي الركبان، إذ في تلقّي الركبان يقوم الحضريُّ بشراء الأمتعة من القافلة التجارية لنفسه، بينما في بيع الحاضر لِبادٍ يتكفّل عنه بيع أمتعته في البلد، وهو ما كان متعارفاً في العلاقات التجاريّة بين أهل المدن والقرى، حيث كان القرويّون يأتون بمحاصيلهم الزراعيّة وأمثالها، فيتكفّل عنهم شخصٌ من أهل المدينة، ليبيع لهم بضائعهم؛ كونهم لا يعرفون طبيعة التجارات في المدينة، فيقول لهم بأنّني قادر على أن أبيع لكم بضائعكم بأفضل الأسعار، فيتوافقون معه على ذلك دون أن يشتري هو منهم بنفسه أوّلاً البضائع. وقد ورد في بعض الروايات النهي عن بيع الحاضر لبادٍ وعن تلقّي الركبان معاً.
وثمّة تحليلات اقتصاديّة لفهم علّة مثل هذا النهي:
أ ـ فقد ذهب بعضُهم للقول ـ ومنهم السيد محمّد باقر الصدر في “اقتصادنا” ـ إلى أنّ السبب هو الاستغناء عن الوسيط الذي يحول دون مواجهة صاحب السلعة للمستهلِك مباشرةً، لا لشيء إلا ليربح الوسيط على أساس إقحام نفسه بينهما، فالوساطة هنا لا يرحّب بها الإسلام؛ لأنها وساطة متكلّفة لا تعبّر عن أيّ محتوى إنتاجي لعمليّات التجارة. ولعلّه يمكنني تأييد هذا التحليل بأنّ الروايات ميّزت بين تلقّي الركبان في أقلّ من أربعة فراسخ والسفر للتجارة وجلب البضائع، فإنّ الثاني يعبّر عن وسيط خدمي منتج، ويكون إنتاجه مستبطناً في عمليّة تسهيل نقل البضائع نفسها، فليس إنتاجه في تكوين السلعة بما لها من صفة ماديّة، بل إنتاجه في تيسير وصولها للمستهلك؛ إذ من دونه لم تصل.
ب ـ وبعضٌ آخر ـ ومنهم الشيخ محمّد مهدي شمس الدين ـ اعتبر أنّ السبب هو غَبن القافلة التجاريّة والملّاك القرويّين؛ حيث يتمّ إيهاهم بأنّ السعر في البلد هو كذا وكذا، فيما يكون السعر أكبر من ذلك بكثير، فيرفع التاجر الوسيط مستوى ربحه بشكل فاحش نتيجة عدم وضوح الأسعار في البلد للقادمين إليها.
ويُرشد للتحليل الثاني الذي يبدو لي أقرب رغم قرب التحليل الأوّل، ما ورد في كلمات الفقهاء وفي الروايات أيضاً من إثبات خيار الغبن لتجّار القافلة لو دخلوا البلد ووجدوا أنّ السعر الذي باعوا به بضائعهم كان قليلاً جدّاً. بل قد يكون في تلقّي الركبان مساحة مفتوحة للتاجر الوسيط لاحتكار البضائع أو التحكّم بالمفرِط بالأسعار.
والذي توصّلتُ إليه أنّه لم تثبت حرمة ولا كراهة تلقّي الركبان، فضلاً عن القول ببطلان المعاملة التجاريّة، نعم أيّ خطوة من هذا النوع، سواء كانت تلقّي الركبان أو غيرها، توجب الاحتكار وإلحاق الضرر بالناس تكون محرّمةً. وتحليل أمثال السيد محمّد باقر الصدر قريبٌ من جهة ثانية، وهو أنّ الوسيط التجاري يجب أن تحمل وساطته خدمةً لأحد طرفي المعاملة غير المباشرين لبعضهما، عنيتُ القافلة التجارية والمستهلِك في داخل المدينة، فلو كان خروجه لمسافةٍ قليلة لا يوجب منه تقديم خدمة ـ مثل السفر لجلب البضائع وتوفيرها في السوق أو تسهيل معاملات البائعين والمشترين ـ فإنّها تكون مرجوحة. فليس هناك تحريم ولا كراهة في تلقّي الرّكبان بعنوانه، بل المرجوحيّة ناظرة لدور الوسيط غير الخدمي، بل على العكس دوره الاستغلالي الموجب لاحتكار البضائع أو رفع قيمتها السوقيّة أو تفويت المصالح المعقولة على البائعين الأصليّين، فهذا هو المرجوح، وتقتضيه النصوص والقواعد العامّة، بل قد يبلغ حدّ التحريم لو بَلَغ عناوين محرّمة.
وفي عصرنا الحاضر، كلّ وساطة تجاريّة تقوم بتسهيل أمور البائعين أو المشترين المستهلِكين، ولا تُلحق بهم ضرراً فهي مرحّب بها، فيما التي لا تكون كذلك لا تبدو راجحةً، بل قد تكون مرجوحةً أو محرّمة لو تعنونت بعناوين تحريميّة كالاحتكار وغيره.
هذا كلّه في تحليل النصوص ومفاداتها تحليلاً تاريخيّاً سياقيّاً مع ملاحظة قرائن النصوص ذاتها أيضاً، غير أنّ عمدة النصوص هنا لا يمكن الاعتماد عليه؛ لضعف الأسانيد جدّاً وقلّة النصوص، بل أغلبها ـ على قلّتها ـ ترجع لراوٍ واحدٍ مجهول وهو منهال القصاب، ولهذا مال الكثيرون لاحقاً للقول بالكراهة على قانون التسامح في أدلّة السنن، وهو قانونٌ لا نقول به كما ذكرنا مراراً، فيرجع لمقتضى القواعد ومذاق الشريعة القائم على الاستقراء مؤيّداً بمفادات هذه النصوص في موردها وفق فهمِنا المتقدّم لها، وتكون النتيجةُ هو ما توصّلنا إليه.
حيدر حبّ الله
السبت 25 ـ 6 ـ 2022م