تقصير الثياب ـ للرجل دون المرأة ـ أو ما يعبّر عنه في الفقه الإسلامي بتشمير الثوب، من الموضوعات التي تناولها علماء السنّة والشيعة. ويشتهر بين بعض أهل السنّة، وبخاصّة السلفيّة منهم، تقصير الثياب، وأنّه مستحبّ.
والذي توصّلتُ إليه أنّ تقصير الثوب ليس مستحبّاً بعينه وبعنوانه، وإنّما الهدف من الدعوة له تارةً الحذر من تنجيس الثياب واتّساخها عبر مماسّتها للأرض، وأخرى الحذر من التكبّر والخيلاء، ومع عدم هذين الأمرين، لا دليل على استحباب التقصير وأمثاله، فالتقصير حكمٌ طريقي لطهارة الثياب ونحو ذلك، حيث يحتمل اتساخها وتنجّسها.
والمستند هنا مجموعة من النصوص الحديثيّة:
أمّا عند الشيعة، فعدّة روايات، منها: خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: «غسل الثياب يذهب الهمّ والحزن، وهو طهورٌ للصلاة، وتشمير الثياب طهور لها، وقد قال الله تعالى: وثيابك فطهّر، أي فشمّر». وفي خبر سلمة بيّاع القلانس، قال: كنت عند أبي جعفر عليه السلام، إذ دخل عليه أبو عبد الله، فقال أبو جعفر: «يا بني ألا تطهّر قميصك؟» فذهب فظنّنا أنّ ثوبه قد أصابه شيء فرجع، فقال: «إنهنّ هكذا»، فقلنا: جعلنا فداك ما لقميصه؟ قال: «كان قميصه طويلاً، فأمرته أن يقصّره؛ إنّ الله عز وجلّ يقول: وثيابك فطهّر». وقد خصّص الحرّ العاملي باباً في كتاب (تفصيل وسائل الشيعة 5: 38 ـ 41) لهذا الموضوع تقريباً، فراجع الروايات هناك.
والمقصود من تشمير الثوب أن لا يكون ملاصقاً للأرض بل يُرفع قليلاً، ونقطة الخلاف بين الفقهاء تكمن في الحدّ الذي يقصّر الثوب إليه، فكثير من الفقهاء المسلمين ذكروا أنّه إلى نصف الساق، ولكنّ بعض الروايات ـ كخبر ابن هلال ـ فهم منه أنّه إلى الكعبين، إلى أعلى القدم وأوّل الساق، كما هو المتعارف اليوم.
والذي يبدو أنّ الحكم بتقصير الثوب هو حكمٌ طريقي لا غير، فلا موضوعيّة له، ولا استحباب قد تعلّق به لوحده؛ وذلك أنّ المفهوم من الأحاديث هو أنّ تقصير الثوب جاء تعبيراً عن تطهيره وعدم تنجيسه، والروايات عديدة في ربط هذا المفهوم بالآية القرآنية الآمرة بتطهير الثياب، وهذا معناه أنّ العرب كانت ترخي الثياب وتطوّلها وتجرّها خلفها ـ كما هو تعبير خبر معلّى بن خنيس ـ فيمسّ الثوبُ الأرضَ، كما هي الحال عند بعض النساء، ويكون ذلك موجباً لاتساخ طرف الثوب الأسفل ونجاسته نتيجة التصاقه الدائم بالأرض، خاصّة وأنّ النصوص التاريخيّة والحديثيّة في أبواب مختلفة توضح أنّ الأرض والطرقات كثيراً ما كانت ـ آنذاك ـ متسخة أو عليها قاذورات ونجاسات الحيوانات وغيرها، فحصل الأمر بتقصير الثياب كي يكون ذلك أطهر لها، ولهذا ربطت أغلب الروايات بين تشمير الثوب وفكرة الطهارة.
وتطبيق فكرة التشمير في مورد الآية الكريمة يفرض علينا أن نأخذ الطهارة بعين الاعتبار، وإلا صارت هذه الأحاديث منافيةً لظاهر القرآن الكريم ومفسّرةً له بما هو مباين للمعنى الظاهر من اللفظ، وهذا التنافي يتضح ارتفاعه عندما نلاحظ أنّ التشمير تعبير عن تحقيق الطهارة في اللباس، وعليه فمن الصعب الجزم بأكثر من ذلك في دلالة الأحاديث، وينتج عنه استحباب ـ إن لم نقل وجوب لولا المانع من الوجوب ـ أن يحافظ الإنسان على طهارة ملابسه.
أمّا على مستوى مصادر الحديث السنّي، فنحن نجد ربط فكرة التقصير وعدم إسبال الثياب وإرخائها لتجرّ على الأرض، بفكرة التكبّر والخيلاء، فمن عادة الملوك والأمراء جرّ ثيابهم خلفهم، ولهذا ورد في خبر الهجيمي عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ: «وائتزر إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار؛ فإنّ إسبال الإزار من المخيلة، وإنّ الله تبارك وتعالى لا يحبّ المخيلة» (مسند ابن حنبل 5: 64؛ وسنن أبي داود 2: 265 ـ 266). وفي خبر ابن عمر، قال: قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ: «الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جرّ منها شيئاً خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة» (سنن النسائي 8: 208؛ وانظر: صحيح مسلم 6: 147)، وغير ذلك من الأحاديث التي تربط بين المفهومين.
من هنا، ذهب بعض علماء أهل السنّة إلى تقييد التحريم بحالة الخيلاء؛ حملاً للنصوص المطلقة على المقيّدة (انظر: ابن حجر، فتح الباري 10: 224)، علماً أنّ جملة من الروايات في هذا الموضوع خاصّة بالصلاة.
ولمزيد اطّلاع على الروايات، راجع كتاب (إضاءات 1: 343 ـ 346، الطبعة الأولى، 2013م).
حيدر حبّ الله
الخميس 17 ـ 3 ـ 2022م