المعروف بين كثيرٍ من فقهاء المسلمين حرمة التعامل والمتاجرة بالنجاسات والمتنجّسات، فلا يجوز بيعها ولا شراؤها ولا هبتها ولا جعلها أجرةً في الإجارة ولا مهراً في النكاح ولا غير ذلك من أنواع المعاوضات. والظاهر من كثيرين أنّ هذا التحريم إنّما هو لعنوان كونها نجاسات ومتنجّسات، فهو عنوانٌ مستقل يُعدّ سبباً قائماً بنفسه للتحريم ولبطلان المعاملة، لا لعنوان آخر مثل كونها مما لا منفعة محلّلة لها أو غير ذلك، وإن كان يظهر من أدلّة بعضهم أنّ ذلك راجع لموضوع سلب الماليّة والانتفاعات وغير ذلك.
غير أنّ الكثير من الفقهاء المتأخّرين أجروا مراجعة على هذا الحكم الذي كان مشهوراً سابقاً، وقالوا بجواز المعاملة عليها تكليفاً ووضعاً، لكنّ بعضهم قيّد الحكم بأن لا تباع بقصد أن يستخدمها المشتري في الحرام، كأن يأكلها بناء على حرمة أكل النجس، وبعضٌ آخر قيّد بأن تكون لها منفعة محلّلة مقصودة، مثل بيع العذرة للتسميد والدم لانتفاع المرضى به وغير ذلك، مع استثناءات من ذلك تتصل بالخمر والمسكر والكلاب والخنازير والميتة بحثوها في محلّه.
وسوف نقوم بتقسيم الحديث عن هذه الأعيان التي صنّفت في عداد النجاسات ضمن أكثر من حلقة، وهنا في هذه الحلقة سنتكلّم عن جميع النجاسات والمتنجّسات عدا الكلب والخنزير والميتة والمسكر، أمّا هذه الأربعة فنتحدّث عنها لاحقاً بإذن الله.
والذي توصّلتُ إليه أنّه لو غضضنا الطرف عن موضوع المعاوضة بالمسكر والميتة والخنزير والكلب ـ حيث قد يقال بأنّ لهذه أحكاماً خاصّة، نتركها لمناسبة أخرى ـ فإنّ المعاوضة على سائر ما عُدَّ من النجاسات والمتنجّسات حلالٌ تكليفاً وصحيحٌ وضعاً مطلقاً بالعنوان الأوّلي، بل لا يُشترط أن يكون لهذه الأعيان منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء، فحتى لو لم يكن لها أيّ منفعة محلّلة مقصودة عقلائيّاً، لكن أراد المشتري شراءها لسببٍ ما، ولو لم يكن سبباً عقلائيّاً، فإنّ العقد صحيح والمعاملة صحيحة، وجائزة تكليفاً أيضاً بالعنوان الأوّلي. غير أنّه لو كان الترخيص في المعاملة موجباً لشيوع الاستخدام المحرّم، وكان الامتناع عن ذلك موجباً لتوقّفه، ربما أمكن القول بلزوم الامتناع تكليفاً عن المعاملة، دون البطلان وضعاً، وهذا راجعٌ لملاكات تتصل بعنوان ثانوي مثل باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتخضع لشروطه الموضوعيّة.
وبناءً عليه، فهذه الأعيان تُملك ملكيّةً صحيحة، ولا حاجة للمعاوضة على حقّ الاختصاص الثابت في موردها، والذي ذكره كثيرون.
نعم من اشترى هذه الأعيان لا يجوز له التصرّف فيها بغير الوجه الشرعي، وهذا واضح، فالتصرّف بالنجاسات والمتنجّسات على الوجه الشرعي، مثل استخدام الدم لمعالجة المرضى أو استخدام العذرة للتسميد أو استخدام النجاسات في الدراسات الطبيعيّة والمخبريّة والتعليمية وغير ذلك، كلّه جائز. أمّا استخدامها بالأكل والشرب فحرام عند من يرى حرمة تناول النجاسات والمتنجّسات، أو لكونها بعنوانها محرّمة الأكل كالدم. وقد تحدّثنا عن هذا سابقاً فلا نعيد.
وعمدة أدلّة الفقهاء هنا مجموعة من العمومات الكتابية والحديثيّة غير الناهضة في الدلالة أو في السند أو فيهما معاً، ومجموعة من الروايات الخاصّة، وعمدتها ضعيف السند، بل في دلالة بعضها على تحريم التعامل بالنجاسات والمتنجّسات توقّفٌ، كما أنّ في بعضها نوعاً من التعارض، بل لا يبعد أنّ نظر بعضها إلى التعامل الموجب لرواج الاستخدام المحرّم منها، لا غير، فأريد الحدّ من رواج ذلك بملاك ثانوي، ويمكن مراجعة ما كتبه النقّاد من الفقهاء المتأخّرين، فإنّه نافع هنا ويعطي صورة عن الموضوع، فلا حاجة للإطالة، وممّن درس الموضوع بقدر من الإسهاب الشيخ حسين علي المنتظري في كتابه حول المكاسب المحرّمة.
هذا، وقد استدلّ بعضُ فقهاء أهل السنّة هنا بالقياس، حيث النصوص واردة في أمور محدّدة كالخمر والكلب والخنزير، فاستخدموا القياس لمطلق النجاسات، ومن الواضح أنّه قياس مع الفارق، بل لا يُعلم أنّ المعيار هناك هو النجاسة أصلاً، خاصّة مع القول بطهارة الخمر.
حيدر حبّ الله
الأ ربعاء 27 ـ 4 ـ 2022م