ذكر العديد من الفقهاء أنّه يكره الوضوء والغسل بالماء المسخّن بالشمس، وهو أحد أفراد ما يعبّرون عنه بالمياه المكروهة. ويفهم من بعض كلماتهم اختصاص الحكم بما سُخّن بالشمس عن قصد، فيما يرى كثيرون أنّ الحكم أعمّ سواء سخن الماء بالشمس عن قصد لذلك أم لا. كما خاض الفقهاء في تفصيلٍ آخر هنا، وهو هل الكراهة مختصّة بالماء المسخّن الموضوع في إناء أو تعمّ غيره؟ كما خاضوا في شمول هذا الحكم للماء الكثير كالأحواض والبرك والأنهار أو أنّه مختصٌّ بالماء القليل. وبحث الفقهاء كذلك في حالة بقاء السخونة مع زوال الشمس من السماء، وكذلك حالة زوال السخونة بعد تحقّقها، فيما ربطه بعضهم ببحث المشتقّ في علم الأصول، وغير ذلك من الأمور التي تعرّضوا لها هنا.
لكنّ الذي توصّلتُ إليه ـ والله العالم ـ أنّه لا يحرم ولا يكره الوضوء ولا الغُسل بالماء المسخّن بالشمس، مهما فسّرنا مفهوم الكراهة هنا، وأنّه قلّة الثواب أو غير ذلك.
والمستند العمدة لديهم هنا هو خبر السكوني، عن الإمام جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ أنّه قال: «الماء الذي تُسَخِّنُهُ الشمسُ لا تَوَضَّؤوا به، ولا تغتسلوا به، ولا تَعجِنوا به؛ فإنَّه يورِثُ البَرَصَ»، وفي رواية إبراهيم بن عبد الحميد، عن الإمام الكاظم ـ عليه السلام ـ: «دخل رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ على عائشة، وقد وضعت قُمقُمَتَها (نوع من الأواني الصغيرة) في الشمس، فقال: يا حُمَيراءُ، ما هذا؟ قالت: أغسِلُ رأسي وجسدي. فقال: لا تعودي؛ فإنّه يُورِثُ البَرَصَ»، وقريبٌ منهما مرسل الفتال.
وظاهر الروايات للوهلة الأولى يفترض أن يكون هو التحريم، لا الكراهة، لكنّ العلماء تارةً جمعوا بين هذه الأخبار ومرسل محمد بن سنان المرخِّص في ذلك، فحملوا خبر النهي على الكراهة، وأخرى جمعوا بين بينها وبين الإجماع على عدم التحريم، وثالثة استخدموا التعليل؛ حيث اعتبروا أنّ التعليل الذي من هذا النوع ـ التعليل الراجع لصلاح البدن ـ يُفهم منه الكراهة، وهذا على عكس ما فهمه أمثال العلامة المجلسي من أنّ التعليلات الراجعة لضرر البدن يفترض فهم التحريم منها؛ لحرمة إضرار الإنسان بنفسه، ثم استدرك بأنّه لعلّ الإيراث هنا بمعنى الاحتمال الضعيف. وقد يُفهم من بعضهم أنّ هذه النصوص إرشاديّة لا علاقة لها ببيان أحكامٍ شرعيّة.
والخبر الأوّل ضعيف، بالحسن بن أبي الحسين الفارسي وبالنوفلي اللذين لم تثبت وثاقتهما على التحقيق، بل السكوني نفسه محلّ تأمّل عندي وفاقاً لبعض الأعلام. كما أنّ الرواية الثانية ضعيفة على التحقيق بعدم ثبوت وثاقة درست بن أبي منصور الواسطي، والرواية الثالثة مرسلة. والكلّ أخبار آحاد ظنيّة قليلة العدد.
وقد يقال بأنّ قضايا من هذا النوع يمكن للعلم أن يعطي رأياً فيها، ورأيُه ولو لم يفد القطع لكنّه يورث الظنّ، فإذا قال العلم بأنّ الربط بين الماء المسخّن بالشمس وبين البرص لا أساس له من الصحّة، وهو ربط غير منطقي، وأنّه اعتقاد طبّي قديم لا تُسعفه التجارب ولا تؤيّده الشواهد، ولو كان لبان، فهنا حتى لو لم يحصل لدينا قطع بما ذكره العلم؛ لاحتمال غياب بعض الأمور عنه، لكنّ ذلك يُضعف من قوّة الظنّ الموجودة في هذه الأحاديث والروايات، فيفرض درجةً أعلى من التراكم فيها لتحصيل الوثوق الموضوعي. وهذا ما بحثناه في محلّه من أنّ بعض المعطيات المخارِجة للنصّ حتى لو لم تكن حجّة في ذاتها، غير أنّ قوّتها الاحتماليّة ـ شرط أن تكون 1 ـ موضوعيّةً. 2 ـ ولها درجة إثباتيّة، لا أنّه فقط ليس لديها فكرة عن الموضوع، لا سلباً ولا إيجاباً ـ قوّتها الاحتماليّة يمكنها تضعيف درجة الوثوق بالأخبار الآحاديّة، بحيث يصعب بعد ذلك تحصيل الوثوق بهذه الأخبار الأمر الذي يحيج لمراكمات أكبر لرفع القوّة الاحتماليّة مجدّداً في النصوص.
بل لو بُني على أنّ النبيّ أو الإمام أو الصحابي يُعمِل هنا في مثل هذه الموضوعات علومَه الظاهريّة المتوفّرة بحسب عصره، وبخاصّة أنّه لم ينسب شيئاً هنا لله ولا لشريعته بنحو الصراحة، فإنّ مثل هذه النصوص تفقد درجةً كبيرة من قدرتها على إنتاج أحكام شرعيّة مستقلّة بعنوانها، ويكون فيها النبيُّ مجرّدَ مطبِّق لمفهومٍ سائد في ذلك الزمان عن العلاقة بين البرص والماء المسخّن بالشمس، نعم لو نَسَب النبيُّ ذلك لله أو لشريعته، بأنّ قال: إنّ في دين الله حرمة أو كراهة كذا وكذا، فإنّ الأمر مختلف حيث ينعدم احتمال اعتماده على العلوم الظاهريّة بحسب عصره، أو يكون بحكم العدم، وكذا لو ثبت أنّه قال مثلاً: كلّ ما أخبركم به من أمورٍ طبيّة فهو من الله بالوحي، وكذا لو تضاءل احتمال كون هذه المعلومة الصحّيّة موجودة في عصر النبيّ وما قبله كالتراث الطبّي اليوناني أو العربي أو غيرهما، فتأمّل جيّداً. والتفصيل يراجَعُ في محلّه؛ حيث تعرّضنا للكثير من هذه الموضوعات ـ وضوابطها ومعاييرها والأصل الأوّلي فيها ـ في أصول الفقه.
حيدر حبّ الله
الجمعة 13 ـ 5 ـ 2022م