تحدّث الفقه الإسلامي بالتفصيل حول محاربة أهل البغي، وهي الجماعات المتمرّدة بالعنف المسلّح على السلطة الشرعيّة، ومن ضمن الموضوعات بالغة الأهميّة التي تتصل بهذا الملفّ عندهم، مصير الغنائم والأسرى وقضايا السبي والاسترقاق وقتل الجريح والمُدْبِر ونحو ذلك، فكيف يتصرّف بأموال الجيش الباغي على تقدير الانتصار عليه؟ وما هي الضوابط في التعامل مع الجنود الأسرى أو المستسلمين من هذا الجيش؟ وهكذا.
اشتهر بين الفقهاء القول بنظريّة التمييز هنا، فاعتبروا أنّه إذا كان البغاة بعد هزيمتهم يرجعون إلى فئة، بمعنى أنّهم يمكنهم العود إلى جماعتهم وإعادة تجهيز قوّتهم، كما هي الحال في حرب صفّين، ففي هذه الحال يُقتل أسيرهم وجريحهم ومدبرهم.. وتترتب عليهم جملة من الآثار الفقهيّة، فيما لا يمكن فعل ذلك كلّه لو كانت الجماعة الباغية بعد هزيمتها غير راجعةٍ لفئة تلتجئ إليها لتعيد تكوين صفوفها، كما هي الحال في حرب الجمل. لكنّ هذه الرؤية المشهورة خالف فيها بعض الفقهاء ـ مثل السيد الخوئي جزئيّاً ـ وكانت لهم قراءات أخرى. نعم اتفق الفقهاء ـ على ما يبدو ـ على منع استرقاق المسلمين، وإن نُسب لابن أبي عقيل العماني أنّ الإمامَ مخيّرٌ حتى في الاسترقاق.
والذي توصّلتُ إليه ـ والعلم عند الله ـ هو أنّ الأصل حرمة دم المسلم وعرضه وماله، لا يُخرَج عنه إلا بدليلٍ معتبر قويّ، وليس في المقام دليلٌ معتبرٌ على خرق هذه القواعد بالعنوان الأوّلي، لا في البغاة الراجعين لفئة ولا في غيرهم، لهذا يُرجع في تحديد الإجراءات اللازمة في مثل هذه القضايا لنظر السلطة الشرعيّة، لا مطلقاً، بل في خصوص ما تراه من ضرورات أو متطلّبات ثانويّة لها تبريرها الزمني في لحظتها، فلو فرضنا أنّ عدم قتل المدبِر يوجب عودة الحرب وانتشار البغي والفوضى، وتوقَّفَ الأمرُ على قتله حال هروبه، أمكن للسلطة الشرعيّة الحكم بذلك ضمن تبريرٍ ثانويّ، فالأمر ليس بيد السلطة الشرعيّة مطلقاً، بل بيد التبرير الثانوي وفقه الأولويّات الموجب للخروج عن التشريعات الأوّلية في حرمة دم المسلم وماله وعرضه، وما لم يتوفّر تبرير ثانوي مقبول شرعاً، فإنّ أموال ونفوس وأعراض هؤلاء المسلمين كلّها محترمة مطلقاً، نعم في غير الملكيّات الشخصيّة، كالأسلحة والعتاد الذي يستخدمونه في مثل عصرنا، فإنّه تملكه السلطة الشرعيّة.
والنصّ القرآني لا يشير لا من قريب ولا من بعيد لكلّ هذه القضايا، ولهذا فالعمدة هي النصوص الحديثيّة، وأغلبيّتها الساحقة تتحدّث عن تجربة الإمام عليّ ـ عليه السلام ـ في حروبه الداخليّة، وأغلبيّتها يتحدّث بالخصوص عن معركة الجمل (ويمكن طرح تحليلات عدّة لسبب تركيز الروايات على هذه المعركة، دون معركتَي: صفين والنهروان)، حتى أنّ الإمام الشافعي صرّح بأنّ مستند فقه أهل البغي هي التجربة العلويّة، ولكنّنا بمراجعتنا للنصوص المتعلّقة بما بعد الحرب وانتصار السلطة الشرعيّة، وجدنا أكثر من ثلاثين رواية حديثيّة وتاريخيّة، ولو رصدناها بمعايير النقد السندي الرجالي لتبيّن أنها بأجمعها ضعيفة السند على التحقيق عدا روايتين أو ثلاث، بل الأهمّ من ذلك هو أنّها تعاني من تناقضات وتعارضات في مداليلها ومعطياتها، وقد استقصيتُ تعارضاتها في دروسي في فقه الجهاد، ورأيتُ أنّها على ثلاثة أشكال أساسيّة من التعارض غير القابل للجمع المعقول. وأحد أشكال التعارض هو أنّ بعض هذه الروايات يفصّل بين ما يرجع لفئة وما لا يرجع إليها، وهو ما تعارضه روايات أخَر تمنع هذا التمييز، وترى الحكم واحداً في كلّ أهل القبلة.
الأمر الآخر المهم جداً هنا هو أنّ سيرة الإمام علي في حروبه الداخليّة هل قامت كلّها بالضرورة على قاعدة الحكم الأوّلي أو يمكن أن تكون قامت على قواعد الحكم الثانوي والولائي؟ بعض الروايات يُفهم منه الأوّليّة فيما بعضُها الآخر يُفهم منه أنّ ذلك كان بعنوان ثانوي وهو حماية الشيعة بعده، وأنّ سيرة الإمام المهدي ستكون على خلاف سيرة العفو التي سار بها عليّ بن أبي طالب، مما قد يُفهم منه من خلال ملاحظة التعليلات أنّ السيرة العلويّة هي الحكم الثابت حتى خروج المهديّ، بما يشمل عصورنا الحاضرة، كما رجّح المحقق النجفي صاحب الجواهر أيضاً.
والموضوع فيه تفصيل كثير، نسأل الله التوفيق لطباعة بحوثنا الموسّعة في فقه الجهاد، إنّه قريب مجيب.
حيدر حبّ الله
السبت 7 ـ 5 ـ 2022م