وقع الكلام بين الفقهاء في كيفيّة غسل أو مسح أعضاء الوضوء، من حيث النكس وعدمه، فبحثوا بشكل مستقل هل يجب غسل الوجه من أعلاه باتجاه أسفله ولا يجوز النكس أو الغسل من اليمين إلى اليسار وبالعكس أو لا؟ وبحثوا الأمر عينه في غسل اليدين وأنّه يبتدأ بالمرفق باتجاه أطراف الأصابع دون العكس، وكذا الحال في الرأس والقدمين يبتدأ من أعلى الرأس باتجاه الوجه، ومن أصابع القدمين باتجاه الكعبين. وأنّه هل المهم البدء بالأعلى أم استمرار هذه العمليّة أيضاً وصولاً إلى الأدنى؟ وغير ذلك.
وهذا الموضوع مما وقعت فيه خلافات فقهيّة، فكثيرون لم يقبلوا بالمنع عن النكس في مسح الرأس والقدمين. بل يظهر من أمثال السيد الخميني والشيخ اللنكراني والسيد السيستاني والسيد محمّد سعيد الحكيم والشيخ الفياض بناء هذا الشرط في غسل الوجه على الاحتياط الوجوبي، بل عمدة دليل بعضهم في غسل الوجه هو الإجماع والشهرة، ولا مجال للإطالة بعرض آرائهم هنا.
والذي توصّلت إليه هو عدم لزوم أن يكون الغسل أو المسح من الأعلى إلى الأسفل مطلقاً، بل يجوز النكس وغيره في أعضاء الوضوء كلّها، ما يُغسل منها وما يُمسح. نعم الغسل من المرفقين إلى أطراف الأصابع في اليدين مستحبّ مسنون، لكنّه ليس بواجب؛ إذ أدلّته كلّها نوقشت، وعمدة المتبقّي منها اثنان:
أ ـ خبر زرارة في الفقيه الوارد في النهي عن ردّ الشعر في اليدين، مؤيّداً بخبر العيّاشي المرسل. غير أنّ الصحيح أنّ الفقرة المشار إليها ـ لو دلّت على المدّعى ـ لا يُعلم أنّها جزء من الحديث، وقد التبس الأمر على بعض كبار الفقهاء هنا. بل هذه الفقرة يُحتمل قويّاً أنّها جزءٌ من كلام الشيخ الصدوق، كما يظهر بمقارنة الرواية نفسها في الكتب الأربعة، ولهذا لم يوردها المحدّثون والفقهاء بعده وصولاً للقرن الحادي عشر، كما أنّها لا تدخل ضمن نطاق سؤال زرارة أصلاً، فتمّ التوهّم أنّه توجد رواية صحيحة هنا. وقد انتبهتُ لهذا الأمر أثناء دراستي للرواية وتحليلها، ثم عثرتُ لاحقاً على من أشار إلى ذلك، وهو الشيخ مرتضى الحائري (1406هـ) في شرحه على العروة الوثقى.
ب ـ ادّعاء وجود إجماع أو تسالم أو سيرة متشرّعية على البدء بالمرفق انتهاءً برؤوس الأصابع، وهو إجماع أو سيرة اعتبرهما بعض الفقهاء الأساس في الحكم بمنع النكس هنا في اليدين.. لكنّه غير صحيح؛ إذ الإجماع لا يفيد اللزوم أو عدم الإجزاء مع النكس، بل يفيد أنّ البدء بالمرفق والانتهاء برؤوس الأصابع من المعالم المسنونة للوضوء في الفقه الإمامي، والذي خالفت فيه الإماميّةُ غيرَها، فما تميّزت فيه الإماميّة هو كون البدء بالمرفق هو المسنون الراجح في مقابل غيرهم الذين إمّا قالوا بالتخيير في البدء بين المرفق والأصابع، أو قالوا بترجيح البدء برؤوس الأصابع باتجاه المرفق. ومراجعة كتب المتقدّمين ـ وبخاصّة ما أشار له السيد المرتضى (436هـ) في كتابَيه: الانتصار والناصريّات، حول متفرّدات الإماميّة ـ تؤكّد تماماً هذه الفكرة، إذ هو يصرّح بأنّ ما انفردت به الإماميّة ليس الوجوب، بل جامع الرجحان، ولهذا هو ينسب القول بالوجوب وعدم الإجزاء من دونه لبعض الإماميّة، فالإمامية كلّها مطبقة على رجحان الابتداء بالمرفق، لكنّ بعضهم زاد على مطلق الرجحان فبلغ حدّ الإلزام.
حيدر حبّ الله
السبت 6 ـ 11 ـ 2021م