يتحدّث الفقهاء عن مسألة تُعتبر ابتلائيّةً إلى حدٍّ ما في الصوم، وهو ما يسمّى بشرط استمراريّة النية أو استدامة النيّة ولو حُكماً، فيرون أنّ الصائم إذا نوى قطع صيامه وعزم على ترك الصوم ولو للحظات، فإذا كان الصوم واجباً معيّناً بطل نهائيّاً مثل صوم نهار شهر رمضان المبارك، حتى لو لم يتناول أيّ شيء من المفطرات، وحتى لو عاد ونوى الصوم مجدّداً. وأمّا إذا كان غير ذلك وكان مجال النيّة مفتوحاً مثل صوم القضاء الذي ينفتح مجال نيّته إلى الزوال، وحصل منه نيّة القطع قبل الزوال، أمكنه الرجوع وعقد النية ما دام الزوال لم يحِن بعدُ، أمّا لو نوى قطع الصوم بعد الزوال لم يعد يمكنه الرجوع وبطل صومه.
وتجري هذه الأحكام بعينها لو تردّد الصائم: هل يترك الصوم أو لا؟ فإنّ مجرّد التردّد هذا يوجب بطلان صومه على التفصيل المتقدّم، كما تجري لو نوى فعل القاطع أي نوى وتحرّك مثلاً نحو أكل الطعام، فإنّ نية القطع قد لا تجامع الإقدام على الأكل، بينما نيّة القاطع تفترض ذلك.
لكنّ الفقهاء جميعاً يوافقون ـ فيما يبدو ـ على أنّه لو تردّد المكلّف في البقاء صائماً أو لا، وكان السبب في ذلك هو شكّه في صحّة صومه، ثمّ تبيّن له أنّ صومه صحيح، فأزالَ التردّد من نفسه، صحّ صومه مطلقاً، معتبرين أنّه في الحقيقة جازم بالنية على تقدير صحّة الصوم، وهذا القدر من الجزم كافٍ.
لكنّ المنسوب لبعض الفقهاء المتقدّمين، مثل الشيخ الطوسي والسيد المرتضى في بعض كتبهما، هو الحكم بالصحّة. أمّا السيّد علي السيستاني فبنى ذلك كلّه في مقام الفتوى على الاحتياط الوجوبي، ويظهر شيء قريب من ذلك عند السيد محمد حسين فضل الله في صورة التردّد خاصّة.
والذي يبدو لي هو أنّه وإن كان يمكن ترجيح القول بصحّة الصوم في هذه الحالات ـ وبخاصّة لو كان الفاصل في نيّة القطع أو القاطع أو التردّد قصيراً زماناً كلحظاتٍ أو دقائق ـ إلا أنّ الاحتياط لازمٌ بإكمال الصوم في هذه الحالات ثمّ القضاء، وذلك أنّ في المسألة أوجهاً واحتمالات تحظى بترجيحات متعارِضة، بما يجعل الاحتياط قراراً موضوعيّاً، والعلم عند الله.
ويستند الفقهاء هنا للحكم بالبطلان في العادة لتحليلٍ استنتاجي، لا لرواية أو آية بعينهما تتكلّمان عن الموضوع بالمباشرة، كما هي الحال في الكثير جدّاً من مباحث النيّة في مختلف أبواب الفقه، وخلاصة هذا التحليل أنّ النية مقوّمة للصوم فإذا زالت ولو للحظة زال الصيام، فلا يصدق على هذا المكلّف أنّه صام النهار كلّه، ومعنى أنّها مقوّمة هو أنّ جوهر الصوم قائم بالنية، وهذا بخلاف الصلاة، فإنّ جوهرها ـ عند كثير منهم ـ ليس قائماً بالنيّة، بل بالأفعال، والنيّة القربيّة شرطٌ في صحّة هذه الأفعال.
غير أنّ هذه الطريقة في المقاربة قد يُناقِش فيها شخصٌ بأكثر من مناقشة، وعلى سبيل المثال قد يقال: لو أنّنا نظرنا في مجمل نصوص فقه الصوم لرأينا أنّ بعض الروايات تسمح في الواجب غير المعيّن بعقد نيّة الصوم قبل الزوال، بل في غير الواجب يمكن عقدها قبل الغروب بقليل، فلو كانت كلّ لحظات النهار يجب أن تكون صوماً عن نيّة جازمة بوصف ذلك مقوّماً، لما صحّ ذلك، بل في بعض صور المسافر يمكنه عقد النيّة لو رجع قبل الزوال، وهذا ما ربما يقال بأنّه ليس من باب التخصيص أو نحوه، بل هو كاشف عن أنّ العلاقة بين النيّة والصوم ليست بالشكل القهري الذي بحيث لو انقطعت للحظة انعدم الصوم نتيجة مفهوم التقوّم لا مفهوم الشرط، بل في كون الواجب المعيّن نيّتُه من الفجر كلام أيضاً، قد نتعرّض له لاحقاً إن شاء الله.
وعليه، فقد يرى فقيهٌ أنّ العبرة بالصدق العرفي لحصول الصوم عن نيّة، والعرف يرى أنّ التردّد لفترة قصيرة أو نية القطع أو القاطع كذلك، لا يخلّ بصدق عنوان صيام النهار عن نية قربيّة، بخلاف ما لو قطع نيته طوال النهار ليعود فينوي في آخره، فيما قد يرى فقيهٌ آخر أنّ المسألة مرتبطة بالدقّة الحرفيّة ممّا يصحّح ما قاله المشهور.
حيدر حبّ الله
الاثنين 2 ـ 1 ـ 2023م