تعرّض الكثير من الفقهاء والمفسّرين والمحدّثين ـ من المذاهب الإسلاميّة المختلفة ـ لموضوع الاستغفار وطلب الرحمة لغير المسلم، كما تعرّضوا للدعاء له بالخير في الدنيا والآخرة. والمعروف بينهم هو جواز الدعاء لغير المسلم بالخير الدنيوي كأن يرزقه الله مالاً وولداً، وإن منع من ذلك بعضهم كما يلوح من الشيخ جواد التبريزي. أمّا الخير الأخروي وطلب المغفرة فالمشهور بين المسلمين هو تحريمه لو كان المستغفَر له والمدعوّ له بالرحمة ميتاً، بل عمّمه بعضهم للحيّ أيضاً.
وقد ذهب الشيخ محمّد آصف محسني إلى جواز الاستغفار له مطلقاً ما لم يعلم أنّه معاند ومقصّر، ولو كان مشركاً. وميّز بعض علماء أهل السنّة ـ وبخاصّة من المعاصرين ـ بين طلب الرحمة بالمعنى العام فيجوز وبين طلب المغفرة فلا يجوز، على أساس أنّ الرحمة قد تشمل تخفيف العذاب، بينما المغفرة تتعلّق برفع العذاب مطلقاً. وكان ترحّمُ الشيخ يوسف القرضاوي على البابا يوحنا بولس الثاني عقيب وفاته عام 2005م، سبباً في انفجار نقاش كبير بين علماء أهل السنّة، وبخاصّة من قبل علماء السلفيّة.
والذي توصّلتُ إليه، والعلم عند الله، أنّه يجوز ـ بالعنوان الأوّلي ـ الدعاء لغير المسلم بما يرجع للمصالح الدنيويّة، بل قد دلّت عليه بعض النصوص، كما يجوز الدعاء له بالهداية، بل ويجوز الدعاء له بالمغفرة والرحمة ما دام حيّاً شرط أن لا يقصد الداعي المغفرةَ له ولو بقي على شركه معانداً حتى الموت، وفاقاً للعديد من الفقهاء، أمّا بعد وفاته فهنا حالتان:
الحالة الأولى: أن لا يكون مشركاً، وهنا يجوز الدعاء له مطلقاً.
الحالة الثانية: أن يكون مشركاً، وهنا:
أ ـ إن كان معانداً ومقصّراً، يُعلم أنّ الله لن يغفر له، بحكم ما أخبرنا سبحانه بذلك، فلا يجوز الاستغفار له ولا طلب الرحمة الأخرويّة، بل هو من سوء الأدب مع الله سبحانه أيضاً، ومن نوع ما يعبّر عنه بعضُهم بالاعتداء في الدعاء. وقد تحدّثت عن هذا الموضوع آيات عدّة، فضلاً عن بعض الروايات، مثل ما جاء في قصّة إبراهيم عليه السلام، وما جاء في قصّة نوح عليه السلام، وكذلك الأمر الإلهي للنبيّ والمؤمنين في هذا الموضوع نفسه فيما يخصّ المشركين (التوبة: 112 ـ 113)، وغير ذلك.
ب ـ وأمّا إذا لم يكن معانداً ولا مقصّراً، فيجوز الترحّم عليه والاستغفار له، بلا فرقٍ بينهما. ويكون من نتائج هذا المعنى أن يغفر الله له سائر معاصيه السلوكيّة والعمليّة.
والنصوص القرآنيّة واضحة في الحديث عن المشركين، لا مطلقاً، على قانون حبط الأعمال بالشرك، فلا معنى لتحصيل الثواب على عملٍ صالح بسبب الشرك. لكن في داخل هذه النصوص قيودٌ من نوع أنّه يُعلم كونه من أصحاب الجحيم أو كونه عدوّاً لله أو غير ذلك من التعابير المحفوفة بالآيات، بما لا يسمح بانعقاد إطلاق، وخاصّة مع بنائنا على أنّ «الكفّار» الذين نظرت اليهم النصوص الدينيّة والذين واجهوا الأنبياء هم في الأعمّ الأغلب من المعاندين الذين رأوا الحقّ والمعاجز وأنكروها لمصالح وغايات من الهوى وطلب الدنيا.
وأمّا النصوص التي تقرّر أنّ عذاب الله للكافرين هو جهنم خالدين فيها، فهي لا تنفي إمكانيّة المغفرة لبعضهم، تماماً كما نقول بأنّ المعاصي توجب العقوبة، فهذا لا ينفي إمكانيّة غفران الله ذلك، بل صريح النصّ القرآني أنّ الله يغفر كلّ شيء ـ إمكاناً ـ عدا الشرك رغم عدم التوبة، فكيف نستدلّ بها على إطلاقيّة الحكم هنا كما فعل غير واحد؟!
وأمّا الروايات، فهي على قلّتها وضعف إسناد أكثرها، وعدم دلالة بعضها أيضاً، لا تُعطي أكثر مما تعطيه النصوص القرآنيّة، مثل روايات الاستغفار لوالدة النبيّ أو لعمّه ـ بناءً على دعوى من يرى كفرهما ـ أو غير ذلك من النصوص، فإنّ غاية ما يُثبت ذلك بضمّه إلى الآية القرآنيّة هو كون والدة النبيّ وعمّه مشركَين معاندَين، فلا تكون هذه الروايات موسّعة لدلالة النص القرآني هنا، علماً أنّ في دعوى كفر أمّ النبيّ وعمّه كلام كثير ليس محلّه هنا. فلا يبقى من النصوص سوى أقلّ القليل وهو لا يبلغ في القوّة مبلغ الخبر الآحادي.
وأمّا الإجماع الإسلامي، فهو واضح المدركيّة، بل صريح الكثيرين منهم هو الاعتماد على النصوص القرآنيّة هنا، وفهمُهم ليس حجّةً علينا إذا كان لفهمنا شواهدُ ومعطيات دعتنا للبناء عليه وأقدرتنا على مناقشتهم، بل دعاوى الإجماع في الوسط السنّي هنا لعلّ عمدتها ترجع للقرن الخامس الهجري وما بعد.
هذا، وقد تعرّضتُ لبعض جوانب هذا الموضوع ـ وبخاصّة قصّة النبيّ إبراهيم ـ في كتابي (قواعد فقه العلاقة مع الآخر الديني: 445 ـ 544، الطبعة الأولى، 2020م)، وذلك ضمن الحديث عن مبدأ الولاء والبراء في الإسلام، فراجع.
حيدر حبّ الله
الثلاثاء 17 ـ 5 ـ 2022م