وقع نقاش بين الفقهاء المتأخّرين من الإماميّة في أنّه لو أراد رجلٌ أن يتزوّج أكثر من امرأة، فهل له أن يجمع بين اثنتين من وُلد السيّدة فاطمة الزهراء أو لا؟ وهذه هي المسألة المعروفة بالجمع بين الفاطميّتين، وقد ذهب جماعةٌ من الإخباريّين، ومنهم المحدّث البحراني (1186هـ)، للمنع من ذلك فحكموا ببطلان النكاح الثاني، أو على الأقلّ حكم بعضهم بحرمة النكاح الثاني حتى لو لم يقولوا بالبطلان، فهم بين قائلٍ بالحرمة وقائل بها مع البطلان. غير أنّ الكثير من الفقهاء الآخرين رفضوا القول بالحرمة أو البطلان هنا، واكتفى كثيرون بالتعبير عن الموقف بالحكم بالكراهة، أي كراهة الجمع بين فاطميّتين.
وقد كُتِبَت رسائل مستقلّة في هذا الموضوع، وعلى سبيل المثال صنّف الشيخ يوسف البحراني رسالة تحت عنوان: mالصوارم القاصمة لظهور الجامعين بين (بنتين من) ولد فاطمةn، وردّ عليه الوحيد البهبهاني والعديد من العلماء. والمنسوب للشيخ الحرّ العاملي (1104هـ) هو القول بالرأي نفسه على مستوى التحريم.
والذي توصّلتُ إليه بنظري القاصر أنّه لم يثبت لا حرمة ولا كراهة الجمع بين فاطميّتين من هذه الناحية، فضلاً عن القول ببطلان أحد النكاحين.
والمستند الرئيس هنا ليس إلا رواية واحدة، وهو خبر محمّد بن أبي عمير، عن رجلٍ من أصحابنا، (أو خبر ابن أبي عمير، عن أبان، عن حماد) قال سمعتُه يقول: mلا يحلّ لأحدٍ أن يجمع بين الاثنتين (ثنتين) من ولد فاطمة عليها السلام؛ إنّ ذلك يبلغها فيشقّ عليهاn. قلتُ: يبلغها؟ قال: mإي واللهn.
وهذه الرواية ضعيفة السند بالإرسال في أحد طريقيها، لكنّ جماعة من العلماء صحّحوا مراسيل ابن أبي عمير، بل هي ضعيفة السند بكلا طريقيها الموصلَين إلى ابن أبي عمير نفسه على التحقيق، وفاقاً لمثل السيد الخوئي، وإن صحّحها جملةٌ من العلماء. وهي من أخبار الآحاد المنفرِدة في بابها.
واللافت أنّ هذه المسألة كلّها لا يُعرف لها وجود في التراث الفقهي الإمامي قبل القرن الحادي عشر الهجري. ولعلّ أوّل من طرحها هو الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني (1088 أو 1091هـ). نعم حاول الشيخ المحدّث البحراني نسبة هذا الرأي للشيخ الصدوق (381هـ) من خلال أنّه نقل هذه الرواية في كتابه: علل الشرائع، غير أنّه من الواضح أنّها محاولة غير موفّقة، فلم يتعهّد الصدوق بنقل خصوص ما صحّ له في هذا الكتاب، على خلاف كتابه الآخر: كتاب من لا يحضره الفقيه، وقد انتقد البحرانيَّ على محاولته هذه العديدُ من العلماء.
وقد ناقش بعضُ الفقهاء هنا بأنّ كونه شاقّاً على فاطمة لا يدلّ على تأذّيها؛ إذ ليس مطلق المشقّة يعني إيذاءها.
لكنّني أعتقد بوجود خلل في هذه المقاربة النقديّة هنا بالخصوص، فصدر الرواية أوضح في جعل تعبير المشقّة كناية عن نوع من الأذيّة أو على الأقلّ إدخال المشقّة على فاطمة يُفهم من الرواية أنّه مرفوض؛ لوضوح التحريم من قوله: mلا يحلّn الوارد في صدر الرواية، فجعل وضوح التحريم في الصدر قرينة على حرمة إدخال المشقّة على فاطمة أقرب من جعل حليّة إدخال المشقّة عليها قرينة على الكراهة، خلافاً لما فعله بعضُ الفقهاء، فدلالة الرواية على التحريم يفترض أن تكون واضحة، ويكون تعبير المشقّة حاملاً معه ـ مثلاً ـ نوعاً من الإيذاء.
وقد ذكر السيّد الخوئي هنا أنّه لا دليل على حرمة الفعل المباح؛ لكونه إيذاءً لمؤمن. وكأنّه لا يرى حرمة إيذاء فاطمة من خلال فعل أمرٍ مباح في نفسه. وقد أثار هذا الموقف من الخوئي نقاشاً وجدلاً في الآونة الأخيرة على غير صعيد. وفي تقديري فإنّ ما ذهب إليه الخوئي غيرُ صحيح على مستوى الرواية؛ إذ ينبغي أن تكون الرواية بنفسها تعبيراً عن تحريم أذيّة فاطمة ولو بالأمر المباح في نفسه؛ إذ من الواضح أنّ الإمام يحرّم الجمع بين فاطميّتين لكون ذلك فيه أذيّة نفسيّة لفاطمة الزهراء، وهذا خير دليل على أنّ إيذاء الزهراء بالخصوص محرّم ولو من خلال فعل أمرٍ مباح، حتى لو قلنا بأنّ أذيّة المؤمن، بمعنى التأذّي النفسي اللاحق له من فعلنا لأمرٍ مباح، لا دليل على تحريمها. فمشكلة التعليل هنا أنّه أقلّ وضوحاً في الكراهة من ظهور المعلَّل في الحرمة، على خلاف العادة التي يكون فيها التعليل أوضح من المعلّل بحيث تكون له قرينيّة عليه، فهذا مثل قولنا: mلا تقتل أحداً ذا نفسٍ محترمة فيعذّبَك الله بجهنّم؛ فإنّ قتلَه يُبكي والدَيهn؛ فإنّ وضوح المعلَّل هنا أكبر من وضوح التعليل نفسه، فانتبه.
فالأصحّ في مناقشة الموقف هنا هو مهجوريّة هذه الرواية، وعدم وجود من عمل بها خلال القرون العشرة الأولى، مع كونها خبراً آحاديّاً ظنيّاً منفرداً في بابه ـ ولا نقول بحجيّة خبر الواحد ـ مع أنّ مسألةً من هذا القبيل لو كانت موجودة لظهرت وبانت، ودعوى أنّه لم يشتهر أمر هذا الحكم في عصر الأئمة وبُعيدَه بسبب التقيّة في غاية الغرابة! مضافاً لضعف سند هذا الخبر بالإرسال وبغيره على التحقيق، مع عدم ثبوت قاعدة التسامح في أدلّة السنن.
هذا وربما تُثار مناقشات تتعلّق بنقد متن الرواية من بعض الجهات، لا داعي للإطالة بها.
حيدر حبّ الله
الثلاثاء 19 ـ 4 ـ 2022م