تحدّث الفقه الإسلامي عن أحكام بعض القضايا المتصلة بالطبابة والتداوي والاستشفاء، وذلك متفرّقاً في مواضع عدّة. ومن ضمن العناوين التي طُرحت، عنوان «ما يُتداوى به»، حيث طرحوا التداوي والاستشفاء بأنواع الطين والأتربة، وكذلك التداوي بالنجاسات والمتنجّسات، وكذا بالخبائث، وأيضاً التداوي بالسحر والعلوم الغريبة، وبالقرآن والدعاء وأنواع الرقية والصلاة والصدقة، والتداوي بالمياه الحارّة وبالحِمية وغير ذلك من الموارد والأمور.
ومن بين المسائل التي ذكرت في مباحث التداوي، كانت مسألة التداوي بالخمور والمسكرات، فهل هو جائز أو لا؟
من الواضح أنّه إذا لم ينحصر العلاج بالخمر والمسكر، أو أيّ محرّم آخر، فلا يجوز التداوي به عبر استعماله بما هو حرام في نفسه لولا التداوي، بل يجب اختيار الدواء أو العلاج الحلال؛ لأنّه لا توجد ضرورة تفرض هتك حرمة الحرام ما دام البديل موجوداً. وإطلاق دليل الحرام يشمل هذه الصورة بلا معارض.
إنّما الكلام في صورة الانحصار، فلو توقّف علاج المرض على تناول الخمر أو المسكر أو دواء فيه الخمر والمسكر، فهل يجوز العلاج به أو لا؟
ذهب الفقهاء ـ وفق ما تعطيه ظواهر كلماتهم هنا ـ إلى أكثر من مذهب:
المذهب الأوّل: التحريم، وأنّه لا يجوز التداوي بالمسكرات، وهو الرأي المعروف بين الفقهاء الشيعة الإماميّة غير المتأخّرين، وقد ذهب إلى هذا الرأي أيضاً المالكيّةُ، وهو ظاهر الحنابلة، وبعضُ الحنفيّة والشافعيّة.
المذهب الثاني: الجواز، وهو ما ذهب إليه جملة من فقهاء الإماميّة، خصوصاً المتأخّرين منهم، وكذا بعضُ الشافعية والأحناف.
المذهب الثالث: ما ذهب إليه بعضُ الإماميّة، من التفصيل بين التداوي لخوفِ التلف فيجوز، والتداوي لطلب العافية فلا يجوز.
ومستند الفقهاء هنا نصوصٌ وروايات وردت في هذا الموضوع.
والذي توصّلتُ إليه هي حرمة التداوي بالمسكر ـ بل بمطلق الحرام ـ عبر شربه أو تناوله في حال عدم انحصار العلاج به، وعدم وجود ضرورة أو حرج أو ضرر وفقاً للتشخيص الطبّي الموثوق، أمّا لو انحصر العلاج به وكان عدم أخذ هذا العلاج موجباً للضرر أو الحرج وكان المورد مورد ضرورة، فإنّه يجوز ولا إشكال فيه، بلا فرق بين كونه لخوف التلف أو لطلب العافية ما دام يصدق عليه عنوان الضرورة عرفاً.
هذا كلّه على تقدير تناول المحرّم أو المسكر، أمّا لو استهلكت الخمر أو المسكر أو الكحول في الأدوية والعقاقير بحيث لم يعد يصدق عرفاً تناول المسكر؛ لانعدامه عرفاً، كما لو كان بنسبة الواحد أو الاثنين في المائة، أو استحال المسكر عند التصنيع فخرج عن حقيقته النوعيّة عرفاً أو واقعاً، جاز التناول على مقتضى القاعدة؛ لأنّنا نبني على طهارة الخمر وعدم حرمة تناول المتنجّس، كما ذكرنا سابقاً، فالأدوية والعقاقير والعلاجات التي يُستهلك فيها المسكر تماماً أو يستحيل، يجوز تناولها حتى ولو في غير حالة الاضطرار والانحصار وأمثالهما.
ولمزيد توسّع، يمكن مراجعة كتابي (فقه الأطعمة والأشربة 1: 252 ـ 256، و 3: 361 ـ 383، الطبعة الأولى، 2020م).
حيدر حبّ الله
الخميس 2 ـ 6 ـ 2022م