إذا قلنا بعدم وجوب تقليد الأعلم، كما هو الصحيح، أو كان المجتهدان متساويين في العلم، جاز التبعيض بين الفقيهين أو الفقهاء، وهذا ما يفتي به جملةٌ من الفقهاء بناء على هاتين الحالتين.
لكنّ بعض الفقهاء كانت لديه تفصيلات، وأبرز تفصيل هنا هو رفض التبعيض في الفعل الواحد ذي الأجزاء المترابطة، حيث قالوا بأنّه يجوز التبعيض في الأبواب، مثل أن يقلّد الأوّل في العبادات والثاني في المعاملات، أو يقلّد الأوّل في الصلاة، والثاني في الصوم، أمّا أن يقلّد الأوّل في فعلٍ صلاتي والثاني في فعلٍ صلاتيٍّ آخر، مع العلم بالمخالفة بينهما في الرأي، فهذا غير جائز. ومثاله الذي ذكروه أن يقلّد الأوّلَ في كفاية التسبيحات الأربع مرّة واحدة في الركعتين الأخيرتين، فيما يقلّد الثاني في كفاية بعض السورة في القراءة في الركعتين الأولى والثانية، ففي مثل هذه الحال لا يصحّ التبعيض. وقد علّلوا ذلك بأنّ كلا الفقيهين يعتبر الصلاة غير صحيحة هنا: الأوّل لاعتقاده بلزوم السورة، والمفروض أنّ المكلّف أتى ببعض السورة، والثاني لاعتقاده بلزوم التسبيحات الثلاث، والمفروض أنّ المكلّف أتى بتسبيحة واحدة، فليس بيد المكلّف ما يصحّح له صلاته هذه من حجّةٍ معتبرة؛ إذ لا يوجد بين الفقيهين من يصحّحها، والاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، وبهذا جرى التبعيض في نظريّة التبعيض نفسها، فصارت تجري في موضعٍ دون آخر.
ومن هؤلاء الفقهاء ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ الذين وافقوا على هذا التفصيل جملةٌ من المعلّقين على العروة، وكذلك السيد الخوئي، والشيخ حسين علي المنتظري، وغيرهم، حيث رفضوا قول صاحب العروة بجواز التبعيض حتى في العمل الواحد.
والذي توصّلتُ إليه هو صحّة التبعيض مطلقاً إلا في حالة واحدة، وهي أن يرى الفقيهان (أو يعلم الفرد نفسه) أنّ هذا المكلّف قد وقع في المخالفة القطعيّة ولو كان وقوعه عن جهلٍ، بحيث لا تصحّ صلاته ولو في هذه الحال، كما لو ترك صلاة الظهر يوم الجمعة بفتوى من لا يرى وجوب الظهر، وترك صلاة الجمعة بفتوى من يرى عدم وجوب الجمعة، فبقي بلا صلاة في ظهر يوم الجمعة، فهنا لا يصحّ هذا التقليد. والسبب هو العلم القطعي بمخالفة الواقع، أو إفتاء كلا الفقيهين بعدم الكفاية ولو صدر ذلك عن جهل من المكلّف، فيلزمه القضاء بفتواهما معاً هنا. وهذا بخلاف الأجزاء المترابطة للفعل الواحد فهي وإن صدق في بعض حالاتها ما أسلفناه في صلاة الظهر والجمعة يوم الجمعة، كما لو أفتى الأوّل بعدم وجوب الركوع مع اعتقاد الثاني ببطلان الصلاة بلا ركوع ولو عن جهل أو عن حجّة، فيما أفتى الثاني بعدم وجوب السجود مع اعتقاد الأوّل ببطلان الصلاة مطلقاً بلا سجود.. لكنّ الأمر لا يجري بوصفه قاعدة في مطلق حالات الأجزاء المترابطة في الفعل الواحد، كالمثال الذي أسلفناه أعلاه (السورة والتسبيحات)؛ فإنّ الفقيه الأوّل يرى بطلان الصلاة ببعض السورة على تقدير عدم العذر أو الحجّة للمكلّف في مخالفة ذلك، لا مطلقاً، والثاني يرى الأمر عينه في عدم تكرار التسبيحات ثلاث مرّات، على تقدير عدم وجود العذر أو الحجّة للمكلّف، فلا يرى الفقيهان البطلان هنا حتى مع الجهل رغم وجود حجّة، وفي مثله يمكن القول بالإجزاء. نعم لو أفتيا معاً ببطلان الصلاة بترك السورة وترك التسبيحات الثلاث حتى لو تحقّق الترك عن جهل أو حجّة، فهنا لا يصحّ التبعيض المذكور.
والخلاصة: إنّ التبعيض جائز بمختلف أنواعه إلا في حالة واحدة، وهي أن لا يكون ما فعله المكلّف أو أقدم عليه، مما يَعْلَم هو قطعاً أو يفتي الفقيهان ببطلانه وعدم كفايته ولو صدر من المكلف عن جهل أو مع وجود حجّة. وهذه النتيجة لا فرق فيها بين الأجزاء المترابطة للفعل الواحد أو الأفعال المتعدّدة، فالقضيّة ليست مرتبطةً ـ برأيي المتواضع ـ بارتباطيّة الأفعال، بل بخصوصيّة البطلان ولو على تقدير الجهل ووجود الحجّة.
حيدر حبّ الله
الأربعاء 25 ـ 5 ـ 2022م