ذكر الكثير من متقدّمي الفقهاء إلى أنّه لا يجوز الانتفاع بالأعيان النجسة مطلقاً، إلا ما خرج بدليلٍ خاصّ، فكلّ ما ثبتت نجاسته حرُم الانتفاع به، ولو الانتفاع غير المتعنون بعنوان تحريمي آخر، فاستخدام الميتة في غير أكلها حرام، والانتفاع بالخمر في غير شربها وبيعها حرام أيضاً، وهكذا.
لكنّ الكثير من الفقهاء المتأخّرين وجمهور الفقهاء والمراجع المعاصرين ـ وبعض المتقدّمين أيضاً ـ عدلوا عن هذه الفكرة، وقالوا بعكسها تماماً، وهو أنّ كلّ انتفاع في الأعيان النجسة حلال إلا ما خرج بالدليل الخاصّ.
والخلاف أيضاً وقع في المتنجّسات، فهل يجوز الانتفاع بها في غير ما هو محرّم بعنوانه؟ ذهب بعضهم للحرمة وذهب آخرون للجواز، فلو تنجّس الماء فهل يجوز الانتفاع به بجعله للحيوانات تشرب منه أو لا؟
والصحيح ـ فيما توصّلتُ إليه ـ هو ما ذهب إليه العديد من المتأخّرين، من أنّ الأصل في الأعيان النجسة والمتنجّسة، هو جواز الانتفاع بها مطلقاً إلا ما خرج بالدليل. وما ثبت بنظري القاصر هنا هو جواز استخدام الخنزير لبعض الانتفاعات غير المرتبطة بأكله، بل واستخدام الخمر بتحويلها لخلّ (وهذا غير صناعة الخمر، فانتبه)، ولا يجب إهدارها وإتلافها بمجرّد صيرورتها خمراً ما دام يمكن تحويلها لخلّ، وكذا استخدام الدم بهدف إعطائه للآخرين أو صبغ حائطٍ به، واستخدام العذرة للتسميد، واستخدام المياه المتنجّسة لسقي الزرع فيما لا يلزم منه محذور ثانوي، واستخدام الكلاب لمختلف الأغراض المحلّلة في نفسها، بل حتّى الانتفاع بالميتة في غير ما هو محرّم، مثل استخدام جثث الحيوانات الميتة للتشريح والتعليم، أو لجعلها طعاماً لحيوانات أخرى مملوكة مثلاً، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي تضاعفت اليوم في العصر الحديث بسبب توفّر إمكانات جديدة لاستخدام هذه الأشياء.
والنتيجة: حليّة استخدام مختلف الأعيان النجسة والمتنجّسة في غير الجهة المحرّمة في استعمالها، وفيما لم يرد فيه بخصوصه نصٌّ مانع، كأكل الخنزير والدم والخمر، ولم يكن المورد مشروطاً بالطهارة، كاستعمال الميتة لباساً في الصلاة.
والأدلّة التي اعتمدها جمهور المتقدّمين خضعت لمناقشات من قبل النقّاد هنا، حتى باتت تُعتبر اليوم في غاية الضعف عند بعضهم، مثل:
أ ـ التمسّك بإطلاق تحريم الميتة والدم والخنزير على أساس أنّ الإطلاق شاملٌ لجميع الانتفاعات.
ب ـ الأمر باجتناب الخمر على أساس شمول الاجتناب لكلّ أشكاله.
ج ـ إطلاق تحريم الخبائث.
ووجه الضعف في هذه الأدلّة وأمثالها هو أنّه لا توجد إطلاقات، بل العُرف يفهم ـ بمناسبات الحكم والموضوع وقرائن السياق ـ أنّ المنظور تحريمه هو الأكل والشرب، تماماً كما ورد تحريم الأمّهات والمحارم في النصّ القرآني، فإنّ التحريم هناك غير مطلق؛ لأنّ المنظور فيه تحريم النكاح، لا أنّه ورد مطلقاً، ثمّ تمّ تخصيصه!
د ـ الاستناد للإجماع. وهو ـ لو تمّ التثبّت منه ـ واضح المدركيّة.
هـ ـ بعض الروايات الضعيفة الإسناد أو الدلالة أو هما معاً، مثل مرسلة تحف العقول وخبر دعائم الإسلام، وروايات إراقة الماء المتنجّس، أو الانتفاع بالدّهن المتنجّس في غير الاستصباح خاصّة، فضلاً عن وجود روايات معارضة لها تفيد الترخيص في الاستعمال غير المحرّم بنفسه، وغير ذلك من الملاحظات التي أجاد النقّاد في تناولها هنا، فراجع حتى لا نطيل.
و ـ الروايات الواردة في خصوص الميتة، والتي وقع فيها تعارض يمنع ـ لوجوه ذكروها هناك ـ من الأخذ بالروايات المانعة، فضلاً عن ضعف أغلب الروايات المانعة نفسها، فراجع.
حيدر حبّ الله
السبت 14 ـ 5 ـ 2022م