ذهب العديد من الفقهاء إلى شمول مفطريّة الأكل والشرب (أو الطعام والشراب) للأخلاط وأنواع البلغم والنخامة والنخاعة إذا وصلت من الجوف إلى فضاء الفم، ثمّ ابتلعها الصائم، فإنّها كغيرها من الأشياء التي إذا ابتُلعت يحكم ببطلان الصوم بسببها، فإنّه لا فرق في بطلان الصوم بين كون ما يبتلعه الإنسان مما يُتعارف أكله بين الناس مما هو مطعوم لهم ومشروب معتاد، وما ليس كذلك.
وحكم بعض الفقهاء بوجوب الاحتياط بالترك؛ انطلاقاً من خصوصيّةٍ هنا ترجع لمقاربة النصوص مع بعضها وإقحام فكرة العلم الإجمالي وإجمال المخصِّص المنفصل وغير ذلك مما لا حاجة للحديث عنه.
لكن خالف في ذلك بعض الفقهاء، ورأى أنّ هذه الأخلاط لا يُبطِلُ ابتلاعُها مطلقاً في جميع الحالات الصومَ، ومن هؤلاء: السيد محمّد حسين فضل الله، والسيد علي السيستاني، والسيد موسى الشبيري الزنجاني، والشيخ محمّد الصادقي الطهراني، وغيرهم. أمّا الشيخ عبد الله جوادي الآملي فرأى أنّ مقتضى الاحتياط تجنّب ابتلاع النخامة التي تصل فضاء الفم، لكن لو بلعها الإنسان وخالف هذا الاحتياطَ الواجب فإنّه لا يبطل صومه.
والذي توصّلتُ إليه هو عدم مفطريّة تناول هذه الأخلاط كلّها، سواء وصلت للحلق أو غيره، أو وصلت لفضاء الفم أو غيره، فإنّ المفطر ما لو خرجت من الفم، ثمّ قام الإنسان بتناولها. والحكمُ عينه يجري في الطعام القليل الذي يخرج إلى الحلق أو إلى فضاء الفم بالتجشؤ، ثم يبتلعه الصائم، فإنّه لا يُبطل صومه. وقد كنتُ سابقاً أبني على مفطريّة هذه الأخلاط مطلقاً، لكنّ المراجعة المتكرّرة دفعتني لتغيير موقفي، والله العالم بأحكامه.
والذي دفع العلماء لشيءٍ من النقاش في هذا الموضوع هو رواية غياث بن إبراهيم التي جاء فيها: mلا بأس أن (بأن) يزدرد الصائمُ نخامتهn. ووقع خلاف في معنى النخامة في اللغة العربية والفرق بينها وبين النخاعة، وفي مفهوم الازدراد هنا.
غير أنّ الصحيح أنّ خبراً آحاديّاً منفرداً في بابه لا يمكنه مواجهة العمومات والمطلقات القرآنيّة والحديثيّة الكثيرة ـ لو كان لها دلالة ـ ولو بالتخصيص؛ لعدم حجيّة خبر الواحد الظنّي.
فالصحيح في مناقشة هذه القضيّة في تقديري هو دعوى انصراف جميع الأدلّة ـ على أنواعها هنا ـ لخصوص تناول شيء من الخارج وإدخاله في الجوف. وانتقال البلغم مثلاً من داخل الجسد، ولو إلى فضاء الفم، ثمّ ابتلاعه، لا يصدق عليه عنوان الأكل والشرب المنصرفة إليهما الأدلّة، فالخصوصيّة هنا في تحليلي المتواضع هو إدخال شيءٍ من الخارج إلى الجوف، ولا يصدق هذا الأمر في مورد وصول هذه الأخلاط من الجوف لفضاء الفمّ، فضلاً عن وصولها للحلق، فراجع مختلف نصوص الباب في الكتاب والسنّة تجد أنّ المدار هو تناول شيء في الخارج وإدخاله للجوف، بل يكاد التعبير اللغوي لا يشمل حالة تناول هذه الأخلاط، ولهذا يعبّر عادة في مثل هذه الموارد بالازدراد أو الابتلاع، وليس بالأكل والشرب. بل يكفي الشكّ الحقيقي في انعقاد إطلاقات وعمومات شاملة للمورد، مؤيَّداً ذلك كلّه بخبر غياث بن إبراهيم المتقدّم على تقدير دلالته على الموضوع.
بل يتقوّى ما ذهبنا إليه بصحيح عبد الله بن سنان الصريح في أنّه لو خرج شيءٌ من الطعام بالتجشؤ (المعبّر عنه في الرواية بالقلس) فوصل إلى فضاء الفم ـ فضلاً عن الحلق ـ جاز ابتلاعه، ولا يبطل الصوم، فهذه الرواية الصريحة الواضحة مؤيِّدٌ قوي على أنّ العبرة بما يدخل إلى الجوف من الخارج، لكنّ الفقهاء حملوا هذه الرواية على التقيّة وأمثال ذلك. والسبب هو انعقاد الإجماع عندهم على بطلان الصوم في هذه الحال، فاعتبروا أنّ المشهور أعرضوا عن هذه الرواية، ولهذا احتاط وجوباً ببطلان الصوم بابتلاع هذا الطعام الخارج إلى الفم بالتجشؤ ـ ولم يُفتِ ـ بعضُ الفقهاء المتأخّرين، مثل السيد أبو القاسم الخوئي وجماعة من تلامذته، وكذلك السيد علي السيستاني، والشيخ حسين علي المنتظري، وغيرهم.
وقد تقول: إنّ هذا معناه أنّ بقايا الطعام القليلة التي تكون عالقة من قبل الفجر في الفم يمكننا أكلُها!
والجواب: إنّ هذا الفرض مبطلٌ للصيام وهو مصداقٌ لما تنصرف إليه الأدلّة، وهو دخول شيء من الخارج إلى الجوف، فالخارج هنا هو ما كان خارج الفم ودخل الفم من خارجه، وليس الفم هو الخارج، وهذا على خلاف موضوع الأخلاط فإنّها لم تدخل الفم من الخارج، بل هي تحرّكت في داخل البدن، فتصوّر الفقهاء أنّ مطلق ما يدخل من الفم إلى الجوف هو مفطر، أو تصوّروا أنّ الفم هو الخارج نفسه، في حين منصرَف الأدلّة ـ فيما أفهمه بنظري المتواضع ـ هو مطلق ما يدخل من مثل الفم آتياً من خارج البدن ولو من قَبل، ولهذا نقول بأنّه لو خرجت الأخلاط إلى خارج البدن، ثم أعاد تناولها، بطل صومه؛ لتحقّق العنوان الكلّي المأخوذ في منصرَف الأدلّة، فراجع النصوص وانصرافاتها، ولاحظ ذلك.
وأمّا ما ذكره بعض الفقهاء في بحوثه الاستدلاليّة ـ مثل الشيخ محمّد إسحاق الفياض ـ من شمول الحكم بالمفطرية أيضاً لما إذا وصل البلغم مثلاً للحلق، ولو لم يدخل لفضاء الفم، فهو غير مقنع؛ إذ الروايات التي ذكرها بوصفها شواهد لقوله، تتحدّث عن شيء أتى من الخارج من غير طريق الفم، ثمّ وصل الحلق، مثل ما دخل عن طريق العين أو الأذن أو الأنف، فالمعيار هنا دخول هذا الشيء الآتي من الخارج إلى الجوف، وأين هذا مما نحن فيه، كما صار واضحاً.
حيدر حبّ الله
السبت 30 ـ 4 ـ 2022م