اختلف الفقهاء المسلمون في الوصيّة لغير المسلم، فهل يجوز للمسلم أن يوصي ببعض ماله لغير المسلم أو لجمعيّة خيريّة غير مسلمة ونحو ذلك أو لا؟ وقد وقع الانقسام تارةً في الوسط السنّي وأخرى في الوسط الإمامي:
أ ـ أمّا الإماميّة، فالاختلاف حصل على ثلاثة آراء: أحدها عدم الجواز مطلقاً، بلا فرقٍ بين كونه من الأقارب أو الأرحام أو من غيرهم. وثانيها الجواز مطلقاً، وثالثها التفصيل بين الأقارب والأرحام فتجوز الوصيّة وغيرهم فلا تجوز. هذا كلّه في الذمّي، ويوجد تفصيلٌ مشابهٌ تقريباً في الحربيّ، لكن مع اختلاف في العلماء الذين تبنّوا التفصيل هناك، فقد يقبل فقيهٌ الرأيَ الثالث في الذمّي والرأيَ الأوّلَ في الحربي وهكذا.
ب ـ أمّا أهل السنّة، فذهب بعضهم ـ وهم كثير من المالكيّة ـ إلى عدم جواز الوصيّة للحربي، فيما خصّص المنعَ آخرون ـ وهم كثير من الأحناف ـ بما إذا كان الحربيُّ في دار الحرب دون دار الإسلام، وكأنّ المعيار هو دار الحرب دون الحربيّ بعنوانه. والفرق بينهما أنّ الأحناف وافقوا على الوصيّة لما أسمَوه الحربيّ المستأمن، دون الحربي الذي في بلاد الحرب، في حين أنّ الحربيَّ المستأمن لا تجوز الوصيّة له عند المالكية؛ لكونه حربيّاً. واتخذ كثير من فقهاء الشافعيّة والحنابلة قولاً بجواز الوصيّة مطلقاً لغير المسلم ما لم تكن الوصيّةُ راجعةً بالنفع لعامّة أهل الحرب، فيرخّص في الوصيّة لفردٍ بعينه لا لعامّتهم.
والذي توصّلتُ إليه هو أنّ الوصيّةَ (العهديّة والتمليكيّة) للمسلمين بمذاهبهم، ولغير المسلمين كذلك، جائزة ـ بالعنوان الأوّلي ـ مطلقاً تكليفاً ووضعاً، بلا فرق بين كونهم في بلاد المسلمين أو غيرها، وبلا فرق بين كونهم من الأقارب أو الأرحام أو المحارم وغيرهم، وليس هناك استثناء من هذا الترخيص العامّ إلا حالة واحدة، وهي ما لو كانت الوصية (أو مجموعة الوصايا لو بلغت حدّاً كبيراً من قبل آحاد المسلمين) موجبةً لدعم المعتدين من غير المسلمين على بلاد المسلمين، كما لو أوصى بثلث ماله لجيش العدوّ المعتدي، فالاستثناء ليس للحربيّ ولا لدار الحرب، وإنّما للحرب نفسها، فكلّ وصيّةٍ أو غيرها توجب تقوية المعتدين على بلاد المسلمين في جانب عدوانهم عليهم، تكون محرّمةً.
وعمدة أدلّة الفريق المانع من هذه الاتجاهات هو تارةً آية المنع عن موادّة من حادّ الله ورسوله، وأخرى ضروب من الاستحسانات العقليّة، وثالثة بدعوى الإجماع، ورابعة بعدم تملّك الحربيّ، حيث لا توجد آية مباشرة أو رواية معتبرة كذلك تنهى أو تبطل الوصيّةَ لغير المسلم، بل في غير الحربي توجد جملة من الروايات عند السنّة والشيعة تصحّح الوصيّة، بل لعلّ بعض الروايات الواردة في غير المسلم تحمل إطلاقاً يشمل الحربيَّ نفسه.
أمّا الآية، فهي نهي عن الموادّة، وليست نهياً عن المعاملة بالحسنى، خاصّة لو أريد من الوصيّة ما يرجع بالخير على المسلمين ولو من خلال تأليف القلوب أو غير ذلك، وقد تحدّثنا عن الفرق بين مفهوم المودّة ومفهوم المعاملة بالحسنى في كتاب (قواعد فقه العلاقة مع الآخر الديني)، إذ المودّة مفهوم أعلى من مطلق المعاملة الحسنة أو حسن التصرّف والتعاطي، فلو اشترى مسلمٌ من حربيٍّ بضاعةً، فإنّ تسليمه الثمن ليس مودّة له، بل هو تصرّفٌ حَسَن نابع عن وفاء المسلم بالعقود مع الناس، وهكذا.
وأمّا الإجماع، فدعواه غريبة؛ إذ الفقهاء مختلفون هنا، فضلاً عن عدم حجيّته؛ لوضوح مدركيّته.
وأمّا دعوى عدم تملّك الحربي، فلا وجه لها، فسببها الاعتقاد بإمكان أخذ ماله، حيث ليس له حرمة، وهذا ـ لو سلّمنا جدلاً بصحّته على إطلاقه ـ لا يعني سلب تملّكه، بل غايته الترخيص لنا في تملّك ماله المملوك له، وهذان أمران مختلفان، ولهذا تترتّب المعاملات التجاريّة معه، كما تترتّب مع غيره. ولا دليل معتبراً في الشريعة على سلب غير المسلم ممتلكاته بمعنى خروجه عن قانون الملكيّة الفرديّة.
إلى غير ذلك من الوجوه والمناقشات التي تبدو مرتبطة بالحربي، الأمر الذي يجعل الموقف في غير الحربي أكثر وضوحاً في الترخيص، خاصّة بعد النصوص القرآنية والحديثية حول عدم النهي عن البرّ بهم والقسط.
وعليه، نرجع لعمومات ومطلقات أدلّة الوصيّة، مضافاً إلى الروايات الخاصّة الدالّة في الجملة مباشرة على الترخيص هنا. وفي تقديري ما مال إليه جماعة من الحنابلة هو الأقرب لما توصّلتُ إليه، حيث ميّزوا ـ كما قلنا ـ بين الوصيّة للأفراد والوصيّة للعموم، ويبدو لي أنّهم فهموا من الوصيّة لعموم الحربيّين نوعاً من تقويتهم، ففصلوا بين الفرد والجماعة، وهو تمييز معقول جداً في الجملة، ويضع نصوص العلاقات مع الحربيّين في سياقٍ اجتماعي ـ سياسي، لا في سياقات فرديّة منفصلة. وقد تحدّثنا عن بعض جوانب هذا الموضوع في كتاب (قواعد فقه العلاقة مع الآخر الديني)، فراجع.
حيدر حبّ الله
السبت 28 ـ 5 ـ 2022م