لعلّ السائد في تعامل بعض أوساط الفقه الإسلامي هو اعتبار كلّ ما صدر عن النبيّ أو الإمام بمثابة تبليغ لحكم شرعي إلهي في أصل الشرع، بل إنّ التعامل مع سلوكهما بما في ذلك السلوكيّات الفرديّة الجزئيّة هو كذلك أيضاً في كثير من الحالات، من هنا فكلّ جملةٍ تصدر من النبيّ هي بمثابة إخبار عن وحي إلهي قرآني أو غير قرآني يبيّن موقفاً ثابتاً في أصل الشرع.
ومنذ قديم الأيّام كانت هناك وجهات نظر تُنوِّع شخصيّةَ النبيّ، دون أن تخلَّ بارتباطه بالسماء، لكن في العصر الحديث تنامى هذا التوجّه تنامياً كبيراً، سواء على الصعيد السنّي، وبخاصّة مع مثل الشيخ محمّد الطاهر بن عاشور (1973م) في مباحث “مقاصد الرسول”، أم على الصعيد الإمامي مع شخصيّات كثيرة أذكر من بينها ـ على سبيل المثال لا غير ـ السيّد محمّد باقر الصدر، والسيّد الخميني، والشيخ المنتظري، والسيد علي السيستاني، والسيّد فضل الله، والشيخ محمّد مهدي شمس الدين، وغيرهم.
يقول هذا التوجّه بأنّ النبي قد تصدر منه مواقف عمليّة أو قوليّة بما هو مبلِّغ عن الله، وقد تصدر مواقف أخرى منه بما هو حاكم للجماعة المسلمة، فيُصدر أحكاماً حكوميّة تنظيمية دائمة أو مؤقتة ـ على الخلاف بينهم في زمكانيّة الأحكام الولائيّة السلطانيّة ـ ويُصدر أيضاً أحكاماً قضائيّة تحمل في العادة خصوصيات كثيراً ما تكون خاصّة زمكانيّاً وظرفيّاً، وتصدر منه مواقف طبعيّة ناتجة عن سلوك شخصي طَبعي لا يحمل أيَّ بُعد ديني تبليغي، كأن يكون يفضّل أو يرتاح بالجلوس بطريقة معيّنة، وهكذا. وهذا التمييز بين الشخصيّات يساعد الفقيه على فهم ما وصلنا عن النبيّ وأهل بيته وأصحابه بشكل أفضل، ويتعامل معهم في الإطار التاريخي بشكل أصحّ، ويبدو يحظى بدرجة أعلى من “المعقوليّة التاريخيّة”.
وغالباً ما تَركّزَ نظرُ فقهاء الشيعة الجُدد هنا على ثنائيّة الحكم التبليغي والولائي، لكنّ فقهاء آخرين لاحظوا تنويعات أخرى، مثل ما ذهب إليه السيد السيستاني، تبعاً ـ فيما يبدو ـ لأستاذه الميرزا مهدي الإصفهاني (1365هـ)، من تنويع شخصيّة الإمام بين التعليميّة والإفتائيّة، مرتّباً على ذلك سلسلة من النتائج في نهج التعامل مع النصوص وتعارضاتها. والمجال لا يسع لعرض مختلف الآراء والتوجّهات هنا.
والذي توصّلتُ إليه، هو الإيمان العميق بتعدّديّة شخصية النبيّ والإمام، ليس فقط ضمن ثنائيّات التبليغيّة والولائيّة أو الإفتائيّة والتعليميّة، بل الأمر مفتوح على قراءات ثريّة في هذا الصدد وتنويعات متعدّدة، وهذا التنوّع يفرض على الفقيه جهوداً مضاعفة في كيفيّة التمييز ـ ميدانيّاً ـ في النصوص والأفعال بين ما صدر تبليغاً لأصل الشرع وما صدر لواقعة خاصّة حكم فيها النبي حكماً زمكانيّاً لظروف تاريخيّة بما هو مدير للجماعة مثلاً؛ لأنّ عدم اهتمام الفقيه وتنشيط قراءته لجوانب الشخصيّة سوف يؤدي الى الإفتاء بأحكام شرعيّة ليست من أصل الشرع، أو الإطاحة بأحكام شرعيّة هي من أصل الشرع، لكن تمّ تصوّرها على أنّها صدرت لا من حيث مقام التبليغ. وهذا ما يدفع بعض الناس اليوم للقلق الكبير من فكرة تعدّد الشخصيّات هذه، إلى حدّ توهّم بعضهم أنّها تبطل فلسفة النبوّة! رغم أنّهم يقرّون ـ مثلاً ـ بصدور مئات، وربما آلاف النصوص على نحو التقية من الأئمة، ويبذلون جهوداً مضاعفة في تمييزها، ويوقفون العمل بها، رغم اعتقادهم بصدورها، لكونها صدرت على نحو التقية عندهم، دون أن يضرّ ذلك ـ من وجهة نظرهم ـ بفلسفة الإمامة، بل أليس موضوع التقية في جوهره تنويعاً في الشخصيّة يتبع المبرّرات الزمكانيّة؟!
إنّ دخول الفقيه مجال البحث في أيّ موضوع واضعاً أمامه احتماليّات متعدّدة في الشخصيّة المعصومة، يُثري فرضيات بحثه ويطوّر من قراءاته بشكل كبير جدّاً، ويُغني العمليّة الاستنباطية ويرفع مستوى الوعي التاريخي، شرط أن نواصل عمليّة التأصيل الأصولي للمسألة وتحديد المعايير والضوابط، حتى لا يذهب بعضٌ بها عريضة فيعتبر أنّ كلّ حكم شرعي لا يُعجبه فهو صادر لا من حيث التبليغ! كما يفعله بعض الناس اليوم مع الأسف الشديد. وعلى سبيل المثال عندما يطرح أمثال السيد الصدر أنّ تعبير الرواية: «قضى رسول الله»، يعطي نوعاً من البعد الولائي في الحكم الصادر، فهو ـ أي الصدر ـ يشتغل على تبيين معايير اكتشاف الحكم الولائي، سواء وافقناه على هذا المعيار اللفظي (قضى) أم لا. وما أدعو إليه هو الاستمرار في عمليات الحفر والتنقيب هذه، بل ومحاولة اكتشاف كيف يمكننا اليوم أن نستفيد حتى من الأحكام غير التبليغيّة الصادرة من النبيّ وأهل بيته، سواء على مستوى فهم كيفيّة إصدارهم لها أو المعايير والمنطلقات التي أصّلت لهذه الأحكام عندهم ووقفت خلفها، وهو ما يفرض مساحات ثريّة في التنظير الفقهي.
من هنا، أعتقد بأنّ أحد أسباب وصولي شخصيّاً لنتائج فقهيّة كثيرة مخالفة للسائد، هو عدم اعتقادي بوحدة شخصيّة النبيّ والإمام، وإيماني بأنّ الاجتهاد الأفضل هو ذلك الاجتهاد الذي يحاول التماس التنوّع في الشخصيّة من خلال الشواهد والقرائن والضوابط، وبخاصّة في الأمور غير العباديّة. ودعوتي المتواضعة للحوزات العلميّة أن لا تخاف من هذا الطرح بحجّة أن بعض الناس استغلّته بطريقة فاضحة، فكلّ حقٍّ عبر التاريخ جاء من يستغلّه ويشوّهه، بل أن تفكّر فيه مليّاً وبروح رياضية وعقلٍ بارد، وتُشبعه نقداً وتمحيصاً، منطلقةً من روحٍ محايدة، لا من خلفية متشنّجة أو بعقلية جدليّة عوّدَنا عليها بعض المتكلّمين عبر التاريخ، فلعلّ في ذلك كلّه مفتاح الكثير من التطوير والقفزات النوعيّة في الاجتهاد الشرعي، وفكّ بعض المشاكل العالقة، إن شاء الله تعالى. ودائماً كنتُ أقول: الرسائل العمليّة ليست معياراً لتقويم المناهج الاجتهاديّة، بل المنهج هو المعيار الذي تُعرَض عليه الرسائل العمليّة. وكلّ قلبٍ لهذه الحقيقة سوف يؤدّي إلى عدم تكوين اجتهاد يحمل قفزات نوعيّة ليقود العقل الديني إلى ما هو أفضل وأقوم. وبحمد الله فمنذ حوالي القرن من الزمن نشهد نموّاً مطّرداً في الأوساط الحوزويّة لهذا الموضوع، يسير بهدوء فتتسرّب الكثير من أنماط التفكير هذه بطريقة أكثر انضباطاً وموضوعيّة. ودائماً أقول: إنّ أولئك الذين لم يقرؤوا تاريخ تطوّر الأفكار، وهي المادّة شبه المفقودة في مناهج التعليم الديني، لن يعرفوا أنّ المشهد الديني ـ بما فيه المشهد الحوزوي الفقهي ـ قد شهد تحوّلات كبيرة وهم لا يشعرون، فالقضيّة أشبه بـ “أصالة الثبات في اللغة“، يشعر من لا عمق له في رصد المشهد بأنّ الأمور ثابتة لكنّها تتحرّك باستمرار، وفي القرن الأخير تحرّكت بوتيرة أعلى في تقديري، وهي بحاجة للمزيد.
هذا، وقد تعرّضتُ لجوانب من هذا البحث وخلفيّاته وما له صلة به في مناسبات عدّة، ويمكن ـ بالخصوص ـ مراجعة كتبي الآتية: (نظريّة السنّة في الفكر الإمامي الشيعي، التكوّن والصيرورة: 713 ـ 747، الطبعة الأولى، 2006م؛ وحجيّة السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم: 661 ـ 740، الطبعة الأولى، 2011م؛ والاجتهاد المقاصدي والمناطي 2: 163 ـ 188، الطبعة الأولى، 2020م، وغيرها).
حيدر حبّ الله
الثلاثاء 11 ـ 1 ـ 2022م