عرض الفكرة والمواقف الفقهيّة
يتفق الفقهاء على حرمة تنجيس المساجد مطلقاً، وهناك ما يتصل أو يشبه هذا الموضوع، وهو:
أوّلاً: تنجيس المشاهد المشرّفة والضرائح المقدّسة للأنبياء والأئمّة وأمثالهم، وكذلك تنجيس المصحف الشريف كلاً أو بعضاً، وتنجيس التربة الحسينيّة، وتربة الرسول وسائر الأئمّة وأمثالهم، ونحو ذلك، وهنا للفقهاء رأيان أساسيّان:
الرأي الأوّل: ما هو المشهور، وهو ظاهر عبارات أغلب الفقهاء، بمن فيهم جمهور المراجع الأحياء، من أنّ حرمة التنجيس خاصّة بحالة ما إذا لزم هتك حرمة المشاهد المشرّفة وأمثالها، أمّا إذا لم يلزم هتك الحرمة فيجوز التنجيس، ولا تجب إزالة النجاسة. وقال كثير من هؤلاء بأنّ هذا هو حكم المصحف الشريف أيضاً.
الرأي الثاني: ما ذهب إليه بعض الفقهاء، من أنّ حرمة تنجيس المشاهد المشرّفة حرمة مطلقة، بمعنى أنّ تنجيسها حرام، سواء لزم منه الهتك أم لم يلزم. وهذا هو رأي أمثال الشيخ فاضل اللنكراني، والسيد الصدر في الفتاوى الواضحة، أمّا الشيخ وحيد الخراساني فذهب إلى حرمة التنجيس مطلقاً على الأقوى في المشاهد، وعلى الأحوط في المصحف الشريف.
ثانياً: كيفيّة التعامل أو رمي أو التخلّص من الأوراق أو غيرها، المكتوب عليها اسم الجلالة أو أسماء الله وصفاته، وأسماء الأنبياء والأئمّة وأمثالهم، وكذلك آيات القرآن، أو حتى المصحف كلّه وأمثال ذلك. وهنا السائد في فتاوى الفقهاء واستفتاءاتهم هو حرمة أيّ تصرّف يوجب الهتك والإهانة، لا غير، وهنا نجد بعضهم يطبّق المفهوم على حالات، فمثلاً نجد من يحرّم إحراق الورق، أو يحرّم رميه في مواضع القمامة، أو دفنه إذا كان الناس يمشون على الطريق المدفون فيها هذا الورق، أو رميه في الكنيف أو البالوعة، وبعضهم يقترح رميه في البحر، أو شطبه بالحبر وبعدها يمكن رميه، وغير ذلك من التعابير والمواقف.
خلاصة الرأي الشخصي
والذي توصّلتُ إليه ـ والعلم عند الله ـ أنّه لا يحرم تنجيس غير المساجد مطلقاً ولا ترك النجاسة فيها، إذا لم يلزم منه الهتك أو الإهانة، أمّا إذا لزم فهو حرام، ويجب إزالة النجاسة حينها. أمّا الأوراق وأمثالها مما عليه أسماء الله والأنبياء والأئمّة وآيات الكتاب الكريم وأمثال ذلك، فأيضاً لا دليل على حرمة وضعها في أيّ مكان، ما لم يلزم من ذلك هتكها والعدوان عليها وإهانتها عرفاً. والأعراف هنا تختلف، فلا ينبغي فرض عرفٍ معيّن أو الإفتاء بمضمونه بصيغةٍ مطلقة، بل يُترك الأمر لتحديد المكلّف فيما يراه من عرفه بحسب زمانه ومجتمعه، ولا يُفرض عُرف مجتمعٍ على آخر، سواء كانا مجتَمَعَين في زمان واحد ومكانين، أو في مكان واحد وزمانين، فقد تتحوّل الأعراف. ومفهوم الإهانة هنا يعيشه المتديّنون، وإلا فلا يقول شخص بأنّني لو رميت جريدةً ورد اسم والدي أو أخي فيها، فإنّني أكون قد أهنته وهتكت حرمته، فضلاً عمّا لو ورد فيها آلاف أسماء المؤمنين، كما هي الحال في الصحف والمجلات وغيرها، ونوعية الأشخاص تترك أثراً أيضاً.
لمحة عن بعض الأدلّة والمناقشات
واستدلال بعضهم للتحريم المطلق هنا:
إمّا لأجل وجوب تعظيم الشعائر. وهو غير ثابت بتمام مراتبه، بل الثابت حرمة هتك الشعائر.
أو من حيث إنّ تحريم مسّ المحدث للقرآن يقتضي بالأولويّة حرمة التنجيس، وهو لو سلّم، لكنّه لا دليل كما قلنا سابقاً على تحريم مسّ المحدث بالأكبر أو بالأصغر للقرآن وأسماء الله وأمثالها.
أو دعوى أنّ تنجيس المشاهد والضرائح يقتضي منافاة الوقف الذي جعل فيها. وهذا غير مقنع إطلاقاً إذ تارةً هو مبنيٌّ على تنجيس المتنجّس، وسنتكلّم عنه لاحقاً بحول الله، وأخرى على إحراز السراية والرطوبة وأمثال ذلك، فهو أخصّ بكثير من المدّعى. وليس هناك إجماع مطلق هنا فضلاً عن نصوص ذات بيانات إطلاقيّة. واحتمال خصوصيّة المسجد واردة جداً، وله في الفقه أحكامه وتشريعاته الخاصّة المعروفة.
وليس في موضوع رمي الأوراق المكتوب عليها القرآن أو أسماء الله و.. ليس في ذلك نصّ معتبر إطلاقاً، لهذا بُنيت المسألة على مقتضى الكليات العامّة في الهتك والإهانة. بل أيّد بعضٌ الترخيص الواسع بأنّ الصحابة وأهل البيت لم يذمّوا إحراق عثمان للمصاحف، وهذا ما يحتاج لرصد أنّه هل سكت الآخرون عن إحراقه؟ إذ وردت في النصوص بعض الاعتراضات كاعتراض عائشة، رغم أنّه ورد في نصوص أخرى مدح عليّ لإحراق عثمان للمصاحف. والمسألة تاريخية تحتاج لتتبّع ومراجعة ليس هنا محلّها.
تسمية المحلات التجاريّة أو الشركات أو المنتجات بأسماء الله والأنبياء والأئمّة و..
وأختم أخيراً بما ذكره بعض المعاصرين من الشيعة وبعض اللجان الاستفتائيّة عند أهل السنّة، من أنّ تسمية المحال أو المنتجات أو الشركات بأسماء الله المختصّة به، أو بأسماء الأنبياء والأئمّة وأمثالهم هو أمر منبوذ، بل محرّم؛ لعدم جواز تسمية غير الله بأسمائه الخاصّة، ولأنّ هذا يعتبر متاجرة بالدين.
لكن لا دليل على حرمة التسمية بالأسماء الخاصّة بالله في مثل ما نحن فيه ما لم يلزم منه مفسدة يجب تحديدها بدرجة دقيقة لإعطاء حكمها، بل قد يقال بأنّني عندما أسمّي دكّاني باسم “الرحمان” مثلاً، فهذا معناه أنّ هذا دكّان الرحمن، أي أنّني أجعله لله، وأيّ ضيرٍ في ذلك؟! وهذا غير تسمية الولد بأسماء الله الخاصّة. كما ولا أدري ما وجه مرجوحيّة التسمية بأسماء الأنبياء والأئمّة وأمثالهم، بصرف النظر عن قصود الناس عندما يفعلون ذلك، هل يقصدون المتاجرة والاستغلال السلبي أو لا؟ وإلا فلماذا لا يصنّف هذا نوعاً من نشر الثقافة الدينيّة؟! ولماذا لا تكون تسمية الأولاد بأسماء النبيّ وأهل بيته متاجرة بالدين؟!
وعليه، فإطلاق التحريم هنا، كإطلاق الترخيص، غير دقيقٍ، لا على مستوى الرأي العلمي، ولا على مستوى الفتوى معاً، بل ينبغي القول بالجواز ما لم تلزم منه مفسدة تحريميّة يجب تحديدها بدقّة لا بمزاجيّة.
حيدر حبّ الله
الخميس 3 ـ 2 ـ 2022م