المتداول في الفقه الإسلامي مفهوم حجيّة الفتوى، وعندما يتمّ الحديث عن التقليد فإنّ مفهومه مرتبط بالاعتماد على فتواه أو بمطابقة العمل لفتواه، أو غير ذلك من التعاريف التي ذكروها هناك.
وفي القرون الأخيرة برزت في الحياة الشيعيّة بالخصوص ظاهرة الاحتياط في الفتاوى (وليس الفتوى بالاحتياط، فإنّها أمرٌ آخر شاع بين المتقدّمين نتيجة منطلقات منهجيّة لديهم، وكذلك بين المتأخّرين في حالات محدّدة). والمراد بالاحتياط في الفتوى ـ وأعني به هنا الاحتياط الوجوبي خاصّة دون الاستحبابي ـ تجنّب الفقيه إصدار فتوى في مسألة معيّنة، والاستعاضة عن ذلك بتعبيرات الاحتياط الوجوبي المعروفة في الرسائل العمليّة. وهذه الظاهرة لها جذور منذ عصر مدرسة الحلّة في القرن السابع والثامن الهجريّين، لكنّها كبرت جداً منذ القرن الحادي عشر، وبخاصّة بعد الشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ) الذي تُعتبر رسالته العمليّة مظهراً أعلى من مظاهر هذا الاحتياط الذي ترك تأثيره على جميع العلماء بعده تقريباً.
وقد أفرزت هذه الظاهرة ثنائيّةً جديدة تقوم على التمييز بين الفتوى والرأي العلمي، بمعنى أنّ الفقيه يمكن أن يكون لديه رأيٌ علمي موجود في بحوثه الاستدلاليّة، لكنّه في الرسالة العمليّة وفي فتاويه لا نجد هذا الرأي، بل نجد مكانه احتياطاً وجوبيّاً. ومن المعروف أنّ الاحتياط الوجوبي عادةً تعبيرٌ آخر عن عدم رغبة الفقيه في إصدار فتوى، ولهذا يرجع المقلِّدون إلى الفقيه الأعلم بعده، فإنّه حيث لم يُصدر فتوى، فسوف يكون الأعلم بعده هو الأعلم بين المفتين بهذه القضيّة، فتقليدُه يكون تقليداً للأعلم على طبق القاعدة، إلا على بعض الآراء التي ترى أنّ الاحتياط لو تضمّنت منطلقاتُه تخطئة فتاوى الآخرين (غير الأعلم)، فإنّه يُشكل الرجوع لتلك الفتاوى رغم وجود الاحتياط الوجوبي عند الأعلم.
وقد تعدّدت كثيراً منطلقات الاحتياطات الوجوبيّة، وكُتب في هذا الموضوع أكثر من دراسة منشورة، ومن بينها دراسات للشيخ محمد إبراهيم الجنّاتي والشيخ رضا أستادي وغيرهما.
ولا أريد الحديث هنا عن الاحتياطات، فالكلام فيها طويل، وقد تحدّثنا عنها في مناسبات عدّة، لكن ما أودّ الحديث عنه هنا باختصار شديد هو: هل الحجيّة ثابتة لفتوى الفقيه بما لها من مفهوم في الرسالة العمليّة، أو أنّ الحجيّة لرأيه العلمي، بحيث يكون الرأي العلمي هو الفتوى، ولو لم يكن مذكوراً في الرسالة العمليّة أو كان المذكور في الرسالة العمليّة هو الاحتياط الوجوبي؟ ومعنى ذلك أنّه لو فرضنا أنّنا أحرزنا أنّ الرأي العلمي للفقيه هو حليّة شيء، بحيث توصّل إلى ذلك بوضوح في بحوثه العلميّة المنشورة أو المنقولة لنا من قبل من يعتمد على قوله، لكنّه في الرسالة العمليّة احتاط وجوباً، فهل رأيه العلمي يمثل فتوى تملك الحجيّة بحيث يمكننا العمل على وفقها، ومن ثمّ لا يمكن الرجوع لغيره ـ وفقاً لنظريّة تقليد الأعلم ـ حتى لو كانت الرسالة العمليّة متضمّنة للاحتياط الوجوبي المستدعي تلقائيّاً للرجوع للغير أو لا؟ وكذا لو كان رأيه العلمي هو الحرمة، لكنّه احتاط وجوباً ليسهّل على المكلّفين الرجوع لغيره ممن يقول بالحليّة، فهل الحجيّة في نصوصه في الرسالة العمليّة أو في رأيه العلمي في كتبه وبحوثه؟
الذي توصّلتُ إليه ـ والعلم عند الله ـ أنّ الحجيّة للرأي العلمي النهائي للفقيه، بلا فرق بين أن يكون في كتبه العلميّة البحثيّة أو دروسه أو كتبه الفتوائيّة. ومعنى «الرأي العلمي النهائي» هو أن يكون الفقيه مقتنعاً قناعةً تامّة بالحكم الذي توصّل إليه، وأنّه الحجّة بينه وبين ربّه. وعليه:
أ ـ فلو احتاط الفقيه في الرسالة العمليّة وانطلق احتياطُه من تردّده في البحث أو عدم وضوح النتيجة عنده ولو بسبب ذهاب المشهور إلى عكس ما توصّل إليه، أو وجود عنوان ثانوي عام يجعله يمتنع عن الأخذ بالحكم الأوّلي الذي توصّل إليه، وهو معنى كون احتياطه حقيقيّاً، ففي مثل هذه الحال لا يكون الأخذ برأيه العلمي ممكناً؛ لفرض عدم وجود رأي علمي لديه، بل يلزم الرجوع لاحتياطه وترتيب آثار الاحتياطات الوجوبيّة عليه. وهذا هو ـ أو يُشبه ـ ما يعبّر عنه القدماء عادةً بـ «التوقّف».
ب ـ أمّا لو علمنا أنّ رأيه العلمي واضحٌ وقاطع بتحريم شيء أو تحليله، لكنّه انطلق في احتياطه الوجوبي من أسباب غير بحثيّة ولا ترجع لمعرفته بالحكم الشرعي نفسه أوّليّاً وثانويّاً، بل لمبرّرات موضوعية ظرفيّة تمنعه هو نفسه عن الإفتاء، مثل أنّه يخشى من ردود أفعال الأوساط الحوزويّة على فتواه، ولا يرى مصلحةً في أن يبوح برأيه العلمي في الرسالة العمليّة، أو مثل أنّه لا يريد أن يشقّ على المكلّفين؛ لكون رأيه العلمي تحريميّاً، أو لغير ذلك، ففي مثل هذه الحال ـ وهي التي يكون الاحتياط فيها صوريّاً ـ يكون رأيه العلميّ حجّةً، ولا عبرة باحتياطاته الوجوبيّة في حقّ من اطّلع ـ بطريقٍ حجّة ـ على رأيه العلمي النهائي.
ومن الواضح أنّ التمييز في الاحتياطات الوجوبيّة بين ما يكون الرأي العلمي النهائي خلفها أو لا، ليس متيسّراً لكثيرين، بل للأكثر عادةً، إذ يحتاج لمعرفة واضحة وعن قرب بالفقيه وآرائه ومنطلقاته في الاحتياط الوجوبي هنا أو هناك، فلا يجوز الاستعجال والبناء على الظنّ والتخمين.
ج ـ من هنا تترتب نتيجة أخرى، وهي أنّ الفقهاء الذين ليست لهم رسائل عمليّة، لكنّهم يُبدون آراءهم الفقهيّة النهائيّة بكلّ وضوح وقاطعيّة في بحوثهم أو أجوبتهم، يمكن الأخذ بآرائهم هذه ما دامت تخضع لمفهوم «الرأي العلمي النهائي»، حسبما أوضحناه، بعيداً عن فكرة الأعلميّة هنا. فلا يحتاج مفهوم التقليد لمفهوم التصدّي المرجعي وفقاً لقناعتي المتواضعة، بمعنى أنّه لا يحتاج تقليدُك لشخص في فتاويه أو فتوى من فتاويه، لأن يكون معلناً تصدّيه للمرجعيّة العامّة أو مصدراً لرسالة عمليّة بالمفهوم النمطي المتعارف.
والمستند في ذلك كلّه أنّه لا يوجد لدينا في الأدلّة المعتَمدة شيءٌ يميّز بين الفتوى والرأي العلمي، بل جوهر الفكرة هو رجوع الجاهل إلى العالم، وبناء العقلاء على ذلك، ويصدق في المورد الذي أشرنا إليه عنوان رجوع الجاهل إلى العالم، فلو كنتُ أعلم رأي الطبيب في مرضي وطريقة العلاج منه، لكنّه لم يكن قادراً على أن يتكلّم معي لسببٍ أو لآخر، كما لو كان بعضُ الناس يهدّدونه بأنّه لو أخبرني فسيقتلونه، ففي مثل هذه الحال لا يسقط رأيه العلمي عن الحجيّة، بل هو مصداقٌ جليّ للقانون العقلائي الذي يُشكّل الأصل في فكرة التقليد. وليس مشروطاً في حجيّة رأي العالِم أن يُبدي رأيه بقصد عمل الآخرين به، فإنّ هذا القصد ليس شرطاً في القانون العقلائي، فالفتوى هي «الرأي العلمي النهائي»، لا الرأي المبرَز بقصد عمل الآخرين به، وهذا بخلاف «الحكم» الذي يصدره القاضي أو الإمام، فإنّ الأحكام تأخذ هويّتها من الإصدار القانوني لها، لا من مجرّد اقتناع الحاكم بمضمونها، فلو اقتنع القاضي ولكنّه لم يُصدر حكماً بعدُ فلا قيمة لقناعاته، فيما الفتوى ليست كذلك، بل مرجع الحجيّة فيها هو علم العالم، لا حكمه واعتباره القانوني.
هذا، وللتفصيل مجالٌ آخر نتركه لمناسبة أوسع.
حيدر حبّ الله
الأربعاء 11 ـ 5 ـ 2022م