من الواضح أنّ الخمر بعد تحريمها لا يمكن شربها وهي خمر، كما أنّه لو حكم بنجاسة الخمر فإنّه يحكم بنجاستها مادامت خمراً، فتحليل الخمر لا معنى له في هذه الحال. وكذلك الحال في المسكر ما دام مسكراً. لكن مع ذلك تحدّث الفقهاء عن تحليل الخمر في حالة الانقلاب الذي تحدّثوا عن الفرق بينه وبين الاستحالة، فجعله بعضهم من صغرياتها ومصاديقها، فيما ميّزه عنها آخرون.
ومحلّ البحث الفقهي عادةً في هذا الموضوع يكون في باب المطهّرات من كتاب الطهارة، وكذا كتاب الأطعمة والأشربة. ويستخدم الفقهاء مفردة «الانقلاب» في معناها اللغوي عادةً، كحديثهم عن انقلاب العقد من لازمٍ إلى جائز، أو عن انقلاب النكاح المنقطع إلى نكاحٍ دائم في بعض الحالات. لكنّهم في مختلف الحالات، لا يستخدمون الكلمة بوصفها اصطلاحاً فقهيّاً خاصاً، إلا في موضعٍ واحد تعرّضوا له في كتابَي: الطهارة والأشربة؛ ففي هذين الكتابين يطلق مصطح الانقلاب ويراد به تحوّل الخمر إلى خَلّ، فهذه الظاهرة هي معنى الانقلاب المصطلح عند الفقهاء، بلا فرقٍ ـ في المعنى المصطلح ـ بين أن يحصل هذا الانقلاب بشكلٍ طبيعيّ تلقائي أو بعلاج وتدخّل بشريّ، على تفصيل عندهم وكلام. وقد وقع كلامٌ بين الفقهاء في تميّز الانقلاب عن الاستحالة، التي تعدّ من المطهرات عند الفقهاء، وهي تعني تحوّل جسمٍ أو مادّة إلى جسمٍ آخر، أو خروج جسم من حالة وطبع وهويّة معيّنة إلى طبعٍ وهويّةٍ أخرى.
وهنا يبدو وجود فريقين:
الفريق الأوّل: ويرون أنّ الاستحالة غير الانقلاب؛ لأنّها تعني تبدّل الحقيقة النوعيّة للشيء أو التحوّل الماهوي، كصيرورة الخشب رماداً ونحو ذلك، بينما لا يبلغ التحوّل في الانقلاب هذا الحدّ، وإنّما هو تبدّل في الأوصاف مع بقاء الحقيقة النوعيّة، كتبدّل الخمر خلاً، فالفرق بين الاستحالة والانقلاب هو الفرق بين التحوّل الماهوي والتحوّل الصفتي.
الفريق الثاني: وهم الذين جعلوا الانقلاب من الاستحالة وقسماً منها، ولم يميّزوا بينهما.
وعلى أيّة حال، فالفكرة التي سوف أتحدّث عنها هنا هو أنّ الكثير من الفقهاء حصروا تحليل الخمر بانقلابها خلّاً، وكذلك طهارتها بعد نجاستها لو قلنا بنجاستها، غير أنّ بعض الفقهاء ـ ومنهم السيد الخوئي ـ رأى أنّ الخمر إذا تحوّلت عن أن تكون خمراً حلّت وطهرت ولو كان ما تحوّلت إليه ليس خلّاً.
والذي توصّلتُ إليه هو:
أوّلاً: إنّ الانقلاب بالمعنى الخاصّ، وهو صيرورة الخمر خَلاً، فردٌ من أفراد الاستحالة المتجوهرة بزوال العنوان عرفاً، أمّا الانقلاب بالمعنى العام ـ وهو مطلق التحوّل الأعمّ من الجوهري أو الصفتي ـ فهو أعمّ من الاستحالة كذلك.
ثانياً: إنّ الخمر وتمام المسكرات تَحُلّ بتحوّلها إلى هويّة نوعيّة مغايرة عرفاً، بحيث لا يعود يصدق عليها عنوان الخمر، وهذا يتحقّق أيضاً عند زوال طاقة الإسكار منها بما فيه الإسكار الخفيف، كما أنّها تطهر بذلك لو قلنا بنجاستها، ما دام ما صارت إليه هويّةً نوعيّة مختلفة، مع زوال صفة الإسكار تماماً، ولا يقتصر الأمر على صيرورتها خَلاً بعينه. فلو تحوّلت الخمر التي في هذه الجرار مثلاً وبتفاعلٍ كيميائي معين إلى مادّة أخرى غير الخلّ، أو لسببٍ ما فقدت صفة الإسكار، فلم تعد تُسكر إطلاقاً حتى لو شرب منها الإنسان مقداراً كبيراً جداً، ففي هذه الحال يحكم بطهارتها ـ على القول بنجاستها ـ كما يحكم بحليّة شربها، فالأحكام في هذا الباب تابعة لمحوريّة الإسكار وصدق العنوان لا لشيء آخر، ما لم نقع في شكّ أنّه زال عنوانها أو زال إسكارها فإنّ اللازم هنا هو تجنّبها والحكم بحرمتها حتى نستيقن التحوّل.
وبهذا نعرف أنّ أنواع الخلّ الموجودة اليوم، لا يهمّنا كيفيّة تحوّلها إلى خلّ واستهلاك الوقت في ذلك، في ظلّ تطوّر العلوم الحديثة، بل العبرة بقياس النسبة الكحوليّة ـ مخبريّاً ـ فيها، بحيث يصدق عليها عرفاً الإسكار ولو الخفيف منه أو لا، فما يقال عن مثل خَلّ البلسميك (Balsamic) وحرمته ينبغي إخضاعه لهذا المعيار اليوم؛ فهو أقرب لمعرفة الواقع.
ولمزيد اطّلاع على هذا البحث وتفصيلاته، راجع كتابي (فقه الأطعمة والأشربة 3: 317 ـ 343، الطبعة الأولى، 2020م).
حيدر حبّ الله
السبت 9 ـ 4 ـ 2022م