يعتبر الموقف من القياس من أهمّ عناصر الافتراق في المنهج الاجتهادي بين جمهور أهل السنّة من جهة، والإماميّة والظاهريّة وأمثالهم من جهةٍ أخرى، وقد وردت عشرات الروايات عن أئمّة أهل البيت (بالمفهوم الإمامي) في نقد القياس ورفضه، وعادة ما يفهم كثيرون من القياس المنصوص على رفضه في كلمات أهل البيت مطلق أشكال القياس المتعارفة المستخدمة في وسط أهل السنّة بعد القرن الثالث والرابع الهجريّين إلى يومنا هذا. والسؤال الذي يُطرح هنا: ما هو القياس أو الرأي الذي رفضه أهل البيت؟ وأيّ قياس تحفّظوا عليه؟
توجد هنا فرضيات محتملة، وبعضهم نصّ على بعضها، وأهمّها:
الفرضيّة الأولى: أن يكون المراد بالقياس ونحو ذلك، ما هو المعروف اليوم، وتداول بين علماء أهل السنّة منذ القرن الخامس الهجري ـ في الحدّ الأدنى ـ وما بعد، وهو محاولة الحصول على علّة الحكم في الأصل بهدف تحقيقها في الفرع؛ لإثبات الحكم في الفرع بما هو في الأصل، وقد صاغوا له تعريفات متعدّدة لسنا نهدف الوقوف عندها.
الفرضيّة الثانية: أن يكون القياس هو نقل الحكم من الأصل إلى الفرع عبر مجرّد التشابه، لا عبر العلّة الآتية من الطرق الأخرى المعروفة في مسالك التعليل، وهو ما يُسمّى بقياس الشّبَه، بمعنى أنّنا نتكلّم عن قياس بدائي ينطلق من مجرّد حدّ أدنى من الشبه بين الأصل والفرع، دون دخول في تعميق شكل هذه العلاقة الشبهيّة تحت عنوان العلّة بمفهومها الدقيق المتأخّر.
وادّعاء هذه الفرضيّة قائم على أنّ القياس وُلد بهذه الطريقة البدائيّة العفويّة البسيطة، وأنّه تغيّر وتقعّد فيما بعد بالتدريج، وأنّ سلوك الأحناف الأوائل كانت مشكلته في ذلك.
الفرضيّة الثالثة: أن يكون القياس المنهيّ عنه عبارة عن التماس العلل الواقعيّة للأحكام الشرعيّة من طريق العقل والقناعات الذاتيّة، وجعلها مقياساً لصحّة النصوص التشريعيّة، فما وافقها فهو حكم الله الذي يؤخذ به، وما خالفها كان موضعاً للرفض أو التشكيك.
بناء على هذه الفرضيّة سوف يكون القياس الممنوع عنه هو نوع من الاجتهاد العقلي أو الشخصي في مقابل النصّ، فنحن نلتمس العلل الواقعيّة ثم نحاكم النصوص عبر فهمنا للعلل الواقعية فهماً آتياً من العقل هذه المرّة، وبهذا تقترب فكرة القياس من فكرة «الاجتهاد في مقابل النصّ».
وفرق هذه الفرضيّة عن السابقتين أنّها تُستعمل لنفي الحكم وإثباته، بينما القياس العلّي والشبهي يستعملان لإثبات حكمٍ ما في غير منصوصٍ بناء على حكمٍ في منصوص.
هذه الفرضيّة هي التي يبدو اختارها السيد محمّد تقي الحكيم في تحليل طبيعة النزاع بين الإمام الصادق والإمام أبي حنيفة. كما يبدو من الشيخ حسن الجواهري الميل لهذا الافتراض هنا. بل يبدو ذلك أيضاً من الشيخ جعفر السبحاني، والسيد محمد علي أيازي وغيرهم.
لكن كون هذا هو المنهيّ عنه عند أهل البيت النبوي لا يعني حجيّة القياس المتداول اليوم، بل يعني أنّ القياس بمعناه القديم منهيٌّ عنه، ولكنّه بمعناه اللاحق وإن لم يكن منهيّاً عنه بعنوانه، لكنّه لا دليل على حجيّته ما لم يُفد اليقين، فهو من الظنّ الذي لم يقم دليل على حجيّته. نعم على القول بالانسداد وأنّه لا يخرج عن دليل الانسداد سوى الظنّ القياسي؛ لكونه منهياً عنه، سوف يكون دليل الانسداد شاملاً للقياس بمعناه اللاحق دون وجود مانع في هذه الحال، وهذا ما له تأثير كبير على الانسداديّين لو قلنا بهذه الفرضيّة.
ويمكننا تطوير هذه الفرضيّة أكثر لتستوعب كلّ ممارسة تحدّد الموقف من النصّ أو الموقف من دلالة النصّ وفقاً لرأي الإنسان وقناعاته التي يكوّنها من خارج النصوص، فيستوعب الأمر قياس صدور النص على الرأي والقناعة الشخصيّة تارةً وقياس دلالة النصّ تارةً أخرى بما يسمح بالتأويل والتصرّف في معنى الحديث بما ينسجم مع قناعاته الخاصّة المتولّدة مسبقاً من خارج السياق النصّي.
الفرضيّة الرابعة: أن يكون المراد من القياس مطلق التقدير، لا قياس شيء على شيء، فإنّ القياس بمعنى التقدير وارد في اللغة، وعليه فيشمل القياس كلّ عمليّة يقوم فيها الفقيه بتقدير الموقف ولو خارج إطار النصوص، ومن ثم يستوعب المصلحة المرسلة والرأي وغير ذلك مما يُعتمد أساساً في الاستنباط فيما لا نصّ فيه، إذا لم يقم عليه دليل شرعيّ خاص يمنحه الحجيّة.
الفرضيّة الخامسة: اعتماد النظر الشخصي في اتخاذ الموقف الشرعي دون الرجوع للنصّ رغم إمكان الوصول إليه. ويعني ذلك أنّ الفقيه صاحب الرأي والقياس هو ذلك الشخص الذي يعوّل كثيراً على آرائه وهو قليل الاهتمام بمرجعيّة الرواية والحديث وعموم النصّ، مع توفّر الأدلّة النصيّة إمّا واقعاً منكشفاً بين يديه أو على تقدير الفحص، فإنّ بإمكانه الوصول لكنّه لا يهتمّ كثيراً لمرجعيّة النصّ بالمستوى المطلوب، بل يميل أكثر لرأيه وقياسه.
وقد تلتقي الفرضيّات الثلاث الأخيرة لتشكّل إطاراً عامّاً لمرجعيّة الرأي الشخصي، وأنّ مدرسة الرأي والقياس في القرن الأوّل والثاني، لم تكن غير تعبير عن مرجعيّة النظر الشخصي في القضايا وتحكيمها وإعطاء هذه المرجعيّة دوراً كبيراً في الإفتاء، وأنّ فكرة التعليل وبناء نظام تبرير باسم القياس وما يرتبط به من سياقات.. جاءت لاحقاً، وتمّ تأويل الأمور بطريقة غير دقيقة فيما بعد ليصبح المشهد في القرنين الأوّلين منتظماً على سياق النظريّة التي وضعت في القرون اللاحقة على قانون العلّة ومسالكها، وهذه فكرة يؤيّدها غير واحد من الباحثين ليس آخرهم عبد المجيد تركي، في دراسته الموسّعة في هذا الصدد، متابعاً نسبيّاً ما توصّل إليه جوزيف شاخت في قراءته التاريخيّة.
والذي توصّلتُ إليه بعد دراسة مطوّلة حول الموضوع، هو أنّ المراد من القياس المنهيّ عنه في نصوص أهل البيت هو الفرضيّة الثالثة والخامسة، والتي تعني اعتماد الإنسان على عقله وتقديراته للأمور تارةً بلا رجوع للنصوص أو إذا رجع إليها أخرى فهو يعمد لتأويلها والتصرّف فيها بما ينسجم مع قناعاته الشخصيّة المسبقة، فإذا كان النصّ الديني دالاً ـ مثلاً ـ على وجوب الحجاب للمرأة، لكنّه رأى الحجاب مفهوماً غير مقنع له، فهو إمّا لا يهتمّ كثيراً لمراجعة النصوص الدينيّة بل يُصدر حكمه بشكلٍ مسبق ويدّعي أنّ الله يجب أن يكون قد قال ذلك، أو أنّه إذا راجع النصوص فهو يعمد لتأويلها والتصرّف فيها واختراع أيّ افتراض ولو واهٍ للفرار من معطياتها، كما يفعل كثيرون اليوم. فالمنهيّ عنه هو اعتماد الاجتهاد خارج النص بوصفه المرجع الحقيقي رغم وجود النصّ، لا القياس القائم على مسالك التعليل ونظريّاتها، أو على محاولة اكتشاف العلّة بهدف تعميمها أو ممارسة تخصيص عند فقدها، ولا غير ذلك. نعم يحتمل احتمالاً ضعيفاً أن تشمل نصوصُ النهي الفرضيةَ الثانية أيضاً، وهو قياس الشبه البدائي الذي ظهر في القرن الثاني الهجري قبل تطوير نظريّة القياس عند أهل السنّة لاحقاً. أمّا الفرضيّة الأولى والرابعة فلا يظهر من النصوص ما يرتبط بها. لكنّ هذا لا يعني حجيّتها كما ألمحنا سابقاً، بل هي حيث لا تفيد إلا الظنّ بحاجة لإثبات حجيّة الظنّ الآتي منها.
وقد توسّعتُ في دراسة هذا الموضوع في كتابي (الاجتهاد المقاصدي والمناطي، المسارات والأصول والعوائق والتأثيرات 2: 201 ـ 419، الطبعة الأولى، 2020م)، فراجع.
حيدر حبّ الله
الاثنين 30 ـ 5 ـ 2022م