تنتشر في العصر الحاضر بين المؤمنين ظاهرة النيابة (أو نحوها) في الاستخارة، فيطلب المؤمن من شخص آخر أن يستخير له أو عنه، حتى برزت شخصيّاتٌ كبيرة عُرفت بالزهد والأخلاق أو بنزعاتها العرفانيّة، وصار الكثير من الناس يقصدونها مباشرةً أو بالواسطة من مختلف البلدان، لكي تستخير لهم. بل في كلّ منطقة ومحلّة صار بعض العلماء أو بعض المتديّنين محجّةً لكي يستخير الناس عندهم، انطلاقاً من أنّهم أكثر تديّناً، فيتوقّع استجابة دعائهم ودقّة فهمهم للآيات الكريمة أيضاً كونهم عادةً من العلماء.
وقد تعزّزت هذه الظاهرة في عصرنا الحاضر من خلال طبيعة الإخبارات التي يذكرها مثل هؤلاء العلماء لمن يطلب الاستخارة، حيث يدخلون في بيان بعض التفاصيل التي يفهم من خلالها طالب الاستخارة ما يشبه اطّلاعهم على الغيب ونحو ذلك مما يثير الإعجاب والذهول.
لكن لعلّ أوّل من تعرّض لموضوع النيابة في الاستخارة هو السيد ابن طاووس (664هـ)، حيث ذكر أنّه لم يعثر على حديث صريح في استخارة الإنسان لغيره، لكنّه مع ذلك حاول تخريج الاستخارة النيابيّة. إلا أنّ العلماء بعده ـ رغم ندرة تعرّضهم لهذا الموضوع ـ اختلفوا فيه: فذهب بعضهم إلى مشروعيّة الاستخارة النيابية وأنّه لا ضير فيها، وهو الشائع. وفي المقابل، شكّك بعض العلماء في شرعيّة النيابة في الاستخارة، وأنّ هذا الأمر غير مأثور ولا يوجد ما يبرّره، رافضين مجمل هذه الظاهرة.
والذي توصّلتُ إليه هو عدم جريان النيابة في الاستخارة، بمعنى عدم تحقّق الإتيان بالمستحب ـ الذي هو الاستخارة ـ عبر النيابة، ولا يوجد أيّ توجيه ديني في الكتاب والسنّة يدعو لظاهرة مثل هذه الظاهرة الشائعة اليوم. بل إنّ ما ذكره أمثال العلامة المجلسي (1111هـ) وجيهٌ، وهو أنّه لو كانت الاستخارة النيابيّة راجحة أو مدعوّاً إليها لكان يُفترض انتشارها في عصر النبيّ والأئمّة، ومع ذلك لم يرد ـ ولو في رواية ضعيفة ـ أنّ أحداً كان يذهب إليهم عليهم السلام ليطلب منهم الاستخارة!
نعم، لا دليل على المنع عن الاستشفاع ونحوه، بمعنى أن يكون النائب شفيعاً إلى الله تعالى للشخص المستنيب، وهذا غير النيابة والوكالة؛ لأنّ العلاقة الحقيقيّة هنا هي بين النائب والله تعالى، ويكون مضمونها عمل شخص ثالث، فيسأل النائب الله تعالى أن يبيّن له الموقف في فعل زيد. بل لا يُعلم أنّ فعل الشفيع ـ فضلاً عن صاحب الاستخارة ـ هو استخارة هنا بالمعنى الاصطلاحي للكلمة.
ملاحظة: هذا كلّه على تقدير ثبوت الاستخارات الرائجة اليوم، وقد قلنا سابقاً بعدم ثبوتها.
لمزيد تفصيل حول النيابة في الاستخارة، انظر كتابي المتواضع (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 4: 229 ـ 245، الطبعة الأولى، 2013م).
حيدر حبّ الله
الجمعة 29 ـ 10 ـ 2021م