ذهب العديد من علماء المسلمين، وبات أمراً شبه إجماعيّ بين أهل السنّة لاحقاً، إلى الاعتقاد بصحّة كلّ ما جاء في الصحيحين: صحيح البخاري وصحيح مسلم. كما ذهب بعض الإخباريّة من الإماميّة إلى القول بكون كلّ ما جاء في الكتب الأربعة (الكافي للكليني، والفقيه للصدوق، والتهذيب والاستبصار للطوسي) يقينيّ الصدور، بل مال بعضهم ليقينيّة الدلالة أيضاً. غير أنّ فريقاً آخر من الإخباريّين وربما يظهر من بعض الأصوليّين أيضاً في مقام الممارسة العمليّة على الأقلّ، قالوا بحجيّة ما ورد في الكتب الأربعة وكونه معتبراً من حيث الأصل والمبدأ. غير أنّ المشهد إماميّاً يختلف عنه سنيّاً فالكتب الأربعة لم تعد يقينيّة الصدور أو معتبرة بأكملها بعد هيمنة التيار الأصولي منذ الوحيد البهبهاني (1205هـ)، كما لم تكن كذلك قبل العصر الإخباري، بينما السائد في الوسط المدرسي السنّي إلى اليوم صحّة ما جاء في الصحيحين.
والذي توصّلتُ إليه في دراسة منطلقات الفريقين: السنّي والشيعي ـ وكذا الإباضي ـ هنا، أنّه لا توجد أدلّة مقنعة تثبت صحّة هذه الكتب أو غيرها، بهذه الطريقة للتصحيح، فضلاً عن القول بيقينيّة صدور جميع رواياتها أو دلالاتها. والأدلّة التي ساقها أهل السنّة والشيعة لإثبات ذلك كلّه تخضع لمناقشات مطوّلة، بل بعض هذه الكتب لم يكن بهذا المستوى من الأهميّة في زمن مؤلّفه وبُعيدَه، بل لا يعلم أنّ المؤلّف كان بهذه المثابة والمكانة في الأوساط العلميّة آنذاك، بل بعض الشواهد تُعطي نقداً شديداً على بعض مؤلّفي هذه الكتب وذلك من قبل العلماء في العصور السابقة نفسها، وإنّما تمّ لاحقاً صناعة هذه الهالة القدسيّة حول الكتب والمؤلّفين ونسج القصص المشكوك في صدقيّة بعضها. ذلك كلّه كان بفعل عوامل متعدّدة، يُشبه بعضُها ما حصل مع قوننة الأناجيل الأربعة عند المسيحيّين في القرون الميلاديّة الأولى.
فليس هناك كتابٌ معتبر بأكمله لا يجوز المساس به أو نقده، أو تتجاوز رواياته أو رواته القنطرة، أو يكون نقده جهدَ العاجز، كما قيل في حقّ بعض هذه الكتب. كما ليس هناك كتاب مرفوض بأكمله، بل العبرة بدراسة الكتاب من حيث نسبته ونسخه ومستواه بوصفه كتاباً حديثيّاً، ثمّ دراسة رواياته واحدة واحدة من حيث إمكانيّة إعادة بنائها التاريخي ورصد شواهدها ومتابعاتها في الكتب المختلفة. فعندما نقول: لا دليل على صحّة كلّ ما جاء في صحيح مسلم أو كافي الكليني، فهذا لا يعني سقوط الكتابين عن الاعتبار، كما أنّنا عندما نقول بعدم صحّة كتاب تفسير القمي أو العياشي أو الاختصاص.. فهذا لا يعني أنّ جميع روايات هذه الكتب أصبحت في حكم العدم، فدراسة الكتب وتقويمها بوصفها كتباً، تختلف عن دراسة كلّ رواية على حدة واردة في هذه الكتب، وبخاصّة على مسلك الوثوق الاطمئناني، فانتبه وتأمّل، فقد تلتقي النتائج وقد تختلف.
ولمزيد توسّع في دراسة هذا الموضوع، ورصد أدلّة الاتجاهات المختلفة عند السنّة والشيعة هنا، يمكن مراجعة كُتبي الآتية: (نظريّة السنّة في الفكر الإمامي الشيعي، التكوّن والصيرورة: 238 ـ 274، الطبعة الأولى، 2006م؛ والمدخل إلى موسوعة الحديث النبوي: 311 ـ 383، الطبعة الأولى، 2013م. وراجع أيضاً: حجيّة الحديث: 129 ـ 152، الطبعة الأولى، 2016م).
حيدر حبّ الله
الثلاثاء 21 ـ 6 ـ 2022م