تعتبر نظريّة الاستصلاح أو المصالح المرسلة من النظريّات الاجتهاديّة التي شهدت نقاشاً طويلاً عبر التاريخ بين المدارس الفقهيّة عند المسلمين حتى فيما بين أهل السنّة أنفسهم، ولطالما كان يعتبرها المنتصرون لها واحدة من وسائل تطوّر الاجتهاد واستمراريّته عبر التاريخ ومرونته وقدرته على مواكبة الوقائع المستجدّة، حتى عبّر عنها عبد الوهاب خلاف (1956م) بأنّها أخصب الطرق فيما لا نصّ فيه، وقال ابن العربي: «لم يفهم الشريعة من لم يحكم بالمصلحة». وهي تصنّف في عداد الأدلّة المساعِدة غير اللفظيّة على الأحكام الشرعيّة، إذ لا يتمّ الاستناد فيها على نصٍّ من كتابٍ أو سنّة، بل على عمليّة تركيبية استدلاليّة معنويّة، ومن هنا فهي تصنّف ضمن المناهج الاجتهاديّة فيما لا نصّ فيه ولا ما هو في قوّة النصّ كالإجماع.
وقد اعتبر الفخر الرازي نظريّة المصلحة المرسلة من نظريات الوسائط التي تقع بين النصّ الشرعيّ والقياس الشرعي، ذاكراً إلى جانبها الاستقراء والاستصحاب وغيرهما، فيما أطلق الغزالي عليها تعبير قياس المعنى. ولهذا نجد الحديث عنها في كتب أصول الفقه السنّي في بابَي: القياس والاستدلال.
وقد اختلفت التسميات التي أُطلقت على هذه النظريّة، وأبرزها: 1 ـ المصلحة المرسلة. 2 ـ المناسب المرسل، وهو استخدام أمثال الغزالي وابن الحاجب والآمدي في بعض كتبهم، وهذا الاستخدام موجودٌ عند متكلّمي الأصوليّين. 3 ـ الاستدلال أو الاستدلال المرسل أو الاستصلاح. والغريب أنّ الشيخ محمّد إبراهيم الجناتي فصلَ المصالح المرسلة عن الاستصلاح، واعتبر كلّ واحد منهما مصدراً اجتهاديّاً مختلفاً عن الثاني، مقرّباً الأمر بأنّ الاستصلاح يكون في موارد تتحقّق فيها موازنة بين المصالح والمفاسد، بينما المصلحة المرسلة ليس في موردها سوى مصلحة، وليس هناك مفسدة، حتى يتطلب الأمر موازنة. وكلامه ليس له عين ولا أثر في التراث الاجتهادي عند المسلمين بحسب تتبّعي ومراجعتي المتواضعة، بل عباراتهم واضحة في إطلاق التعبيرين بمعنى واحد من جهتين، حتى أنّ الجناتي بنفسه يقرّ بأنّ الغزالي لم يفرّق بينهما، ولم نجد كتاباً سنيّاً يفصل بين هذين المصطلحين بهذه الطريقة. 4 ـ القياس المرسل، وهو القياس المصلحي.
وقد انقسم الموقف ـ إجمالاً ـ من هذه النظريّة إلى عدّة آراء، أبرزها:
أ ـ الموافقة المطلقة، وهو المنسوب إلى جمهور المالكيّة والحنابلة، ومن أبرزهم الإمام الطوفي (716هـ).
ب ـ الرفض المطلق، وهو ما نسب إلى الأكثر، بل ذكر ابن رشد الحفيد (595هـ) أنّه لا يقول به إلا مالك من فقهاء الأمصار. وهو ما يظهر أيضاً من الإماميّة والشافعيّة، بصرف النظر عن فكرة إرجاع المصالح المرسلة إلى المصالح المعتبرة أو الملائمة، كما نسب للأحناف وكانت هناك مناقشات في هذه النسبة.
وقد التبس الأمر على بعض الباحثين المعاصرين، فظنّ أنّ قول الشيعة الإماميّة بقاعدة تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد (التعليل المصلحي العام) كأنّه يشي بنوع تناقض مع رفضهم مبدأ المصلحة في الاجتهاد، مع أنّ الشيعة هناك يقبلون بالمصلحة بوصفها خاصية واقعيّة، بينما هنا يرفضونها بوصفها خاصية معرفيّة اجتهاديّة، والتمييز بينهما واضح، فلا تناقض في منظومتهم. هذا وتوجد نقاشات مطوّلة في تصحيح هذه النسب هنا وهناك.
ج ـ الموافقة عليها ضمن إدخالها في مثل كلّيات مقاصد الشريعة، بمعنى أنّها نظريّة صحيحة إذا كانت تهدف للوصول إلى هذه المقاصد المأخوذة من مجموع النصوص وكانت متفقة معها لا غير، وهو ما يُنسب إلى الزيديّة. ويسمّيها بعض الباحثين المعاصرين بالمصلحة المعتبرة ضمنيّاً، وإن لم تكن معتبرة إسميّاً؛ لأنّ موافقتها للمقاصد يمنحها هذا اللون من الاعتبار.
د ـ الموافقة عليها في خصوص المصالح الضروريّة، أو بقيد أن تكون أيضاً قطعيّة وكليّة، لا في مطلق أنواع المصالح. وهذا ما ذهب إليه الغزالي، رغم تصديره البحث في المصلحة المرسلة بوصفها بأنّها من الأصول الموهومة. وهذا الرأي الرابع ربما يمكن إدراجه ضمن الرأي الثالث.
وثمّة قول بأنّ ما كان يسمّيه مالك بالمصلحة المرسلة هو بعينه ما عاد وأُطلق عليه لاحقاً نظريّة مقاصد الشريعة، أو ما كان يمارسه الآخرون تحت عنوان: المناسبة غير المقيّدة، أو هو أمرٌ متفق عليه في الأصل لكنّ عدم وضوح معناه لدى الباحثين فيما بعد أوجب ظنّ الاختلاف، كما يُلمح إلى الأمر الأخير الشيخُ البوطي.
لكنّ بعض الباحثين يميّز بين المصلحة المرسلة والمقاصد، والكلام فيه تفصيل لا يسمح به المجال هنا.
وبهذا وغيره يَبِينُ لنا أنّ نسبة الأقوال هنا في غاية الاضطراب والتذبذب والتعارض، وهذا ما يؤكّد لي:
أ ـ إمّا أنّ نظريّة الاستصلاح مرّت بمراحل بحيث بدت في كلّ مرحلة قد اتُخِذت منها مواقف مختلفة عن المرحلة السابقة، وهذا ما أوجب اضطراب النسبة.
ب ـ أو أنّها استُنبطت استنباطاً من ممارسات هذا الفقيه أو ذاك دون وجود نصوص أصولية واضحة ونهائية له كما يبدو أنّه حصل بعضَ الشيء مع فهم موقف الإمام مالك.
ج ـ أو أنّ تنوّع الشروط التي ذكروها هنا وهناك أوجب ظهور فهوم متعدّدة لهذه النظريّة، لاسيما وأنّ معنى المرسَل يبدو غير مفهوم بشكل واضح خاصّةً بعد قيود من نوع لا نصّ خاصّاً فيه أو لا يوجد أصل كلّي يشمله..
د ـ بل إنّ الموقف من أنواع المناسب في باب القياس من حيث الاقتصار على المؤثر منه ـ كما هو المنسوب إلى الأحناف ـ أو الشمول لغيره، ترك تأثيرات عجيبة هنا جعلت الموقف ملتبساً للغاية.
هـ ـ أو أنّ الخلاف كان منحصراً ـ ولو في حقبة زمنيّة معيّنة ـ في اعتبار الاستصلاح دليلاً مستقلاً عن نظريّات: النصّ والإجماع والقياس وتوابعها، فالشافعيّة مثلاً تُنكر المصلحة بوصفها دليلاً مستقلاً، فيما تؤمن بها المالكيّة بالوصف عينه وهكذا.
و ـ أو أنّنا أمام خلافات لفظيّة ومشكلة تعابير، باعتبار أنّ القرون الخمسة الهجريّة الأولى لم تكن فيها المصطلحات قد نضجت وانفصلت عن بعضها بطريقة دقيقة، فالتعابير كانت تتراوح بين الاستخدامات اللغويّة والتوظيفات المصطلحيّة أحياناً.
والذي توصّلتُ إليه هو أنّه حيث إنّني لا أؤمن بشمول الشريعة لكلّ وقائع الحياة، لهذا أعتبر أنّ ما لا دليل على وجوده من الأدلّة الحجّة المعتبرة، كالنصوص الكتابية والحديثيّة الثابتة صدوراً ودلالة، ينبغي فيه إجراء أصالة عدم الجعل القانوني من المولى سبحانه، حيث لا علم بوجود حكم، بلا حاجة لتكلّف اختلاق قواعد اجتهاديّة للوصول إليه حذراً من ضياع الشرع، إذ هو غير معلوم الوجود أصلاً، لا أنّه معلوم الوجود، ويجب ـ بأيّ ثمن ـ الوصول إليه.
كما أنّ التقريبات الاستدلاليّة التي قُدّمت لصالح تأسيس قاعدة منهاجيّة في الاجتهاد الشرعي باسم المصالح المرسلة، بحيث يتمّ من خلالها استخراج أحكام الله تعالى فيما لا نصّ فيه ولا دليل عليه، كلّها تخضع للنقاش والنظر، وليست متينة وكافية. ومجرّد ظنّ المصلحة، بل حتى اليقين بها، لا يعطي ظنّاً بالحكم الشرعي أو يقيناً به بالضرورة، بل لو أعطى ظنّاً فإنّ هذا الظنّ لا دليل على اعتباره وحجيّته.
نعم، غاية ما يمكن لنا إثباته هو أنّ على الهيئة الاجتماعيّة للمسلمين (أو الدولة أو ولي الأمر) أن يعتمدوا المصلحة أو عدم المفسدة في سياستهم الشرعيّة، فالمصلحة المدرَكة بالعقل الإنساني شرطٌ في سنّ القوانين في دائرة منطقة الفراغ، ومتولّو شؤون المجتمع الإسلامي مسؤولون عن العمل لما فيه صالح المسلمين، لكنّ الناتج عن مقرّراتهم وقوانينهم ليس حكماً شرعيّاً استنبطناه بالمصلحة، وإنّما هو حكم ولائي سلطاني إداري تدبيري وجبت طاعته، ولكنّه ليس جزءاً من منظومة الشريعة الإسلامية في نفسه. وهذا هو الفارق بيني وبين القائلين بالمصلحة المرسلة، فنحن نقبل أن يقوم المتولّون لشؤون المسلمين بوضع قوانين معيارها المصلحة الموائمة مع مقاصد الشريعة وغاياتها، وغير المعارضة للنصوص والأحكام الشرعيّة، بل نرى لزوم ذلك شرعاً، لكنّنا لا نفسّر الناتج القانوني لهذه العمليّة بكونه استكشافاً لحكم الله في الواقعة، وإنّما هو حكمُ البشر فيها. وأعتقد لو أنّ الاجتهاد السنّي تخلّى منذ البداية عن فكرة الشموليّة، لم يكن بحاجة لجعل المصالح المرسلة أداةً في الاجتهاد، بل لقبل بها بوصفها أداةً في التقنين منتجةً لسلسلةٍ قانونية وإجرائيّات واجبة الطاعة في هدي قواعد الشرع ومقاصده، لكنّها لا تمثل جزءاً من الشريعة.
فخلاصة الموقف في المصلحة المرسلة، أنّها ليست قاعدةً في الاجتهاد الشرعي، بل هي قاعدةٌ في السياسة الإداريّة الشرعيّة.
ومن الطبيعي أنّ هذه النتيجة التي توصّلتُ إليها في المصالح المرسلة، تجعل الكثير من الآراء الفقهيّة المتداولة في الفقه السنّي غير صحيحة من وجهة نظري.
وقد بحثتُ بشيءٍ من التفصيل نظريّةَ المصلحة المرسلة، وذلك في كتابي (فقه المصلحة: 165 ـ 240، الطبعة الأولى، 2019م)، فراجع.
حيدر حبّ الله
الاثنين 27 ـ 6 ـ 2022م