لا يتعرّض الفقهاء في العادة لهذا الموضوع، وهو أنّه ما هو الموقف من نشر الشخص المؤمن بمذهبٍ معيّن من بين مذاهب المسلمين، لعقائد وأفكار مذهبه بين سائر المسلمين؟ فهل هذا الفعل جائزٌ أو حرام أو مكروه أو مستحبّ أو واجب أو فيه قيود وشروط؟
وفقاً لمقتضى القاعدة الأوّليّة، فإنّ هذا الفعل يجب أن يندرج ضمن المبادئ العامّة لمفاهيم نشر الحقّ والدعوة له، ومفاهيم إرشاد الآخرين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من عناوين ومقولات، غير أنّه توجد نصوص روائيّة تزيد عن عشرة روايات عن أهل البيت النبوي وبينها ما هو الصحيح سنداً عند المشهور، تنهى الشيعي عن الدعوة لمذهبه بين المسلمين، وتطالبه أن لا يتعرّض لهم وأنّه إذا أراد الله أن يهديهم للحقّ المختلَف فيه فإنّه سبحانه هو الذي سيقوم بذلك. ولهذا طُرح في بعض الأوساط خلال العقود الثلاثة الأخيرة بعضُ النقاش المحدود حول شرعيّة مشاريع نشر التشيّع ومذهب أهل البيت التي تقوم بها بعض الاتجاهات الشيعيّة، تماماً كما تقوم بها على المقلب الآخر بعضُ الاتجاهات السنيّة، وبخاصّة السلفيّة.
والذي توصّلتُ إليه من دراسة مجمل النصوص والمعطيات في هذه القضيّة، لاسيما مع رصد أنواع المجموعات الحديثيّة الأخرى، غير هذه المجموعة الناهية عن (تشييع) الناس، هو أنّ لدينا ثلاثة عناوين:
أ ـ عنوان الدعوة، بمعنى أن يقوم الشيعة بحمل فكرة نشر التشيّع، ثم يذهبون إلى الناس بالطريقة الممكنة ويدعونهم إلى هذا الأمر، ويسعون لإقناعهم وجعلهم شيعة، ويستخدمون في سبيل ذلك مختلف الوسائل ولو أدّت إلى المناظرات والمشاحنات وخلق فضاء نقاش مذهبي عامّ وحادّ؛ وهذا هو المنهيّ عنه في النصوص.
ب ـ عنوان الاستجابة، بمعنى أنّ الناس إذا جاؤوا يريدون معرفة التشيّع ويميلون إليه، كان الشيعي مطالَباً بالاستجابة لجذب هؤلاء إلى التشيّع، وهذا أمرٌ مرغوب وحسن.
ج ـ عنوان العرض، بمعنى أن لا يدعوا أحداً، بل يعرضوا مذهبهم فقط، فمن شاء أن يهتدي فعلى الرحب والسعة؛ ومن لم يشأ لا يذهبون وراءه، فوظيفتهم عرض مذهبهم فقط، لا السعي لإقناع الناس به وخلق فضاء عامّ بذلك، وهذا أيضاً مرغوبٌ وحسن.
فالصحيح شمول باب الهداية والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من عناوين.. الصحيح هو شمولها للدعوة المذهبيّة، فهذه الدعوة ليست محظورة، بل هي حقّ لكلّ من يعتقد بعقيدة ويراها صحيحةً، لكن يُفهم من النصوص ضرورة استخدام أسلوب العرض أوّلاً، وملاحظة قابلية الطرف الآخر وإقباله ورغبته ثانياً، وعدم جرّ ذلك للتخاصم واللجاج وخلق فضاء قطبي يشنّج علاقات المسلمين ثالثاً، وعدم استلزامه أيّ مفسدة محرّمة رابعاً.
ولهذا دعوتُ في كتابي (رسالة سلام مذهبي) لتكريس حقّ كلّ مسلم في طرح مذهبه وقناعاته بين المسلمين، على قاعدة الحريّة الفكرية والبيانيّة، وخلق فضاء مفتوح، والابتعاد عن التشنّجات والمشاحنات، أو ممارسة تمزيقٍ للأمن الاجتماعي بطريقة غير مقبولة، أو قيام بعض الجماعات هنا وهناك بإضعاف وحدة المسلمين عبر خلق التوتّرات الطائفيّة باسم الدفاع عن التوحيد أو المذهب أو أهل البيت أو الصحابة أو غير ذلك، فلنعطِ الجميع حقّ طرح أفكاره بهدوء وبعرض متوازن، ولنقبل ـ مهما كانت النتيجة ـ بما تراه الناس، فلسنا أوصياء على أحد، والله خبير بنا جميعاً.
لمزيد توسّع، راجع كتابي المتواضع (فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 310 ـ 330، الطبعة الأولى، 2014م).
حيدر حبّ الله
الجمعة 26 ـ 11 ـ 2021م