المتداول بين الفقهاء عند عدّهم للمطهرات ذكر مطهّرٍ يطلقون عليه عنوان “غَيبة المسلم”، ويقصدون به أنّه لو تنجّست ملابس مسلمٍ نعرفه، وكانت بحوزته، ثم لم نشاهده لأيّام أو شهور مثلاً، ثم رأيناه بتلك الملابس، فإنّه يحكم بطهارة هذه الملابس بمجرّد احتمال أنّه طهّرها، فيكفي هذا الاحتمال للبناء على الطهارة، ولسنا بحاجة لأيّ دليل ولو ظنّي يثبت الطهارة.
غير أنّ العديد من الفقهاء وضعوا شروطاً هنا. واختُلف في عدد الشروط التي يذكرونها، ومن هذه الشروط مثلاً: أن يكون ذلك المسلم عالماً بالنجاسة، وأن يكون عالماً باشتراط الطهارة في الصلاة والأكل، وأن يكون مهتماً بأمور الطهارة والنجاسة ولا يكون غير مبالٍ بهما، وأن يكون بالغاً، وأن يكون هذا اللباس أو الطعام أو غيرهما مما يستعمله هو في الأمور المشروطة بالطهارة كأن يكون لباسه هذا من الألبسة التي يصلّي هو فيها، وغير ذلك. وبعض الفقهاء أخذ بهذه الشروط، وبعضهم احتاط ببعضها، وبعض الفقهاء ـ مثل الشيخ علي الجواهري والسيد الخميني والشيخ بهجت ـ لم يضع أيّ شرط هنا للحكم بالطهارة عدا احتمال تطهير المسلم لها، وبعضهم أخذ ببعض هذه الشروط دون بعض، فراجع حتى لا نطيل.
وقد اختلفت مقاربة الفقهاء لهذا المطهّر، ففيما فهمه بعضهم على أنّه حكم تعبّدي، حاول آخرون أن يفهموه على أنّه من باب دلالة العمل على التطهير، فكما أنّ المسلم لو أخبرني بأنّه طهّر ثوبه فإنّني آخذ بقوله، من باب حجيّة خبر الثقة في الموضوعات أو من باب حجيّة إخبار ذي اليد أو غير ذلك، كذلك هنا، فإنّ سلوكه كأنّه إخبار عن حال بدنه وملابسه وتوابعه. بل قد نقول: إنّ ظاهر حال المسلم يخبرنا بذلك، فعملنا يكون على ظهور حاله، تماماً كما نعمل بظهور مقاله. وبعضهم أقامها على قاعدة حمل عمل المسلم على الصحّة لو رآه يستعمل هذا اللباس فيما تُشترط فيه الطهارة.
وقد أقرّ العديد من الفقهاء بأنّه لا يوجد شيء اسمه مطهريّة الغَيبة، ولا ينبغي عدّ الغَيبة من المطهّرات؛ إذ هذا التعبير مسامحة، وإنّما الغَيبة من وسائل إثبات الطهارة، لا أنّها مطهّرٌ لنجاسة شيء كمطهّريّة الماء مثلاً، ومع ذلك ما يزال يضعها جمهور الفقهاء المتأخّرين والمعاصرين في عداد المطهّرات باستثناء بعضٍ قليلٍ منهم أعاد ترتيب مكانها، فوضعها في باب إثبات الطهارة، مثل السيد محمّد باقر الصدر في “الفتاوى الواضحة”.
والذي توصّلتُ إليه، والعلم عند الله، هو عدم كون الغَيبة لا من المطهّرات ولا من مثبتات الطهارة أو وسائل التحقّق منها، بل نحن نحكم بالطهارة مع الغَيبة لحصول الاطمئنان والوثوق بصيرورة هذا اللباس طاهراً بعد هذه المدّة، فمع الاطمئنان وتلاشي الاحتمالات الضئيلة عقلائيّاً يُحكم بالطهارة، لا للغَيبة، بل للاطمئنان نفسه فهو الحجّة، ومن دون الاطمئنان لا قيمة للغَيبة في نفسها. هذا وإنّني بعد بحثي هذه المسألة ودراسة أدلّتها منذ مدّة، عدتُ ورأيت أنّ المرجع الديني المعاصر السيد موسى الشبيري الزنجاني يرى هذا الرأي عينه، فقد كان يرى الاحتياط الوجوبي في القضيّة، ثم أفتى في الطبعة الأخيرة من رسالته العمليّة بعدم ثبوت الطهارة بالغَيبة مع عدم حصول الاطمئنان النوعي أو الشخصي.
واللافت أنّه لا توجد أيّ آية ولا أيّ رواية ولو ضعيفة السند تمثل عندهم الدليل المباشر على مطهريّة الغَيبة، كلّ ما في الأمر أنّهم تارةً اعتمدوا على ظهور حال المسلم في التطهير، وهو ظهور غير مقنع بعيداً عن الاطمئنان، وأخرى استندوا للسيرة المتشرّعية في العصور الأولى، والتي هي العمدة والأساس في بحوثهم إلى اليوم، باعتبار أنّ المسلمين كانوا يبنون على طهارة ملابس بعضهم بالغَيبة ولا يسألون ولا يلتفتون، لكنّ هذا ليس دليلاً على مطهّرية الغيبة، بل هو دليل على أنّهم كان يحصل لهم وثوق بأنّ الآخر المسلم يطهّر، فكم هو احتمال أن تبقى الملابس نجسة إذا غاب متديّن يعرف الصلاة والطهارة عنك، ثم رجع يصلّي بهذه الملابس حتى لو كان بينك وبينه اختلاف في الأحكام الفقهيّة المرتبطة بالطهارة والنجاسة تقليداً أو اجتهاداً؟! ولا دليل على جريان السيرة المتشرّعية في غير حالات الاطمئنان وعدم الالتفات أصلاً، فالسيرة دليل لُبّي يؤخذ فيه بالقدر المتيقّن، فتأمّل الموضوع جيّداً تجد صدق ما نقول، والعلم عند الله.
فلسنا هنا أمام أحكام تعبديّة، بل لو كان تعبديّاً فمن أين جاء ارتكازه في ذهن عموم المسلمين بهذه القوّة مع شدّة الابتلاء دون وجود أيّ سؤال وجواب حوله؟! وأيضاً لو كان المرجع ظهور الحال فلماذا لم يأخذوا بظاهر حال غير المسلم فيما يرجع للطهارات التي لا تحتاج لخصوصيّات، بل تصدر من عامّة الناس كما لو كان يكفي فيها الغسل مرّة واحدة أو طهارة القدم بالمشي على الأرض وهكذا. وعدم ظهور أسئلة أمرٌ ينسجم مع فرضيّة الاطمئنان؛ لأنّهم كانوا يجرون الاستصحاب ما لم يحصل لهم وثوق بالطهارة أو يقوم دليل معتبر عليها، فليسوا بحاجة لأسئلة، فضلاً عن أنّ حالات العلم بالنجاسة قليلة جداً، وإلا فأصالة الطهارة واستصحابها هما المحكّمان في العادة. وقاعدة حمل عمل المسلم على الصحّة لا تفيد طهارة اللباس، بل تفيد صحّة عمله من حيث هو صادر منه، فتجتمع مع نسيانه التطهير. وعليه، فادّعاء أنّهم كانوا بمجرّد الغيبة يحكمون بالطهارة مطلقاً فيه مجازفة كبيرة، وإثباته تاريخيّاً صعب.
حيدر حبّ الله
الثلاثاء 28 ـ 12 ـ 2021م