اختلفت المذاهب الفقهيّة الإسلاميّة في موضوع صلاة الجماعة في النوافل، وهي الصلوات المندوبة التطوّعيّة غير الواجبة، فذهب مشهور فقهاء أهل السنّة إلى مشروعيّتها، بمعنى أنّه لو أتي بها جماعة صحّت ولا بأس، غير أنّ بعضهم اعتبرها غير مسنونة في بعض النوافل، وبعضهم اعتبر أنّه ينبغي أن لا تتحوّل بعضُ النوافل ـ على الأقلّ ـ إلى صلاة جماعة بشكلٍ دائم بحيث يُعتاد عليها، أمّا مع عدم الاعتياد فلا بأس بالصلاة جماعة فيها.
أمّا الفقه الإمامي، فالمشهور عنده عدم مشروعيّة الجماعة في النافلة مطلقاً، عدا بعض الاستثناءات مثل صلاة الاستسقاء وصلاة العيدين حال استحبابها. وعمّم بعضهم الحكم لصلاة الغدير أيضاً، وأمّا في غير هذه الاستثناءات فلا تشرع الجماعة، بمعنى أنّها لا تصحّ، ولا تترتّب عليها آثارُها. لكن خالف في ذلك السيد العاملي صاحب المدارك (1009هـ)، فرأى صحّة الجماعة في النوافل عدا نوافل شهر رمضان المبارك، وتوقّف في المسألة المحقّق السبزواري صاحب الذخيرة (1090هـ)، بل احتَمَلَ أن تفيد بعض كلمات المحقّق الحلّي وجود قول بين الإماميّة بمشروعيّة الجماعة في النوافل مطلقاً. كما أنّ الشيخ محمّد إسحاق الفياض بنى عدم مشروعيّة الجماعة في النافلة على الاحتياط الوجوبي، كما أنّ السيد علي السيستاني اعتبر إطلاقيّة الحكم بعدم المشروعيّة في مختلف النوافل مبنيّةً على الاحتياط الوجوبي، وكأنّ لديه تمييزاً ما بين النوافل هنا.
والذي توصّلتُ إليه هو مشروعيّة الجماعة في النوافل مطلقاً، إلا مع طروّ عنوان ثانوي مثل عنوان محاربة البدعة، أو كونها من النوافل الليليّة في شهر رمضان المبارك، فإنّ تركها (ترك الجماعة في نوافل رمضان الليليّة) مقتضى الاحتياط. هذا على مستوى المشروعيّة، أمّا على مستوى الاستحباب فلا يظهر دليلٌ على استحباب الجماعة في النوافل عدا ما استُثني.
وقد استند الفقه السنّي للعديد من الروايات الواردة في الصحيحين وغيرهما، والتي تدلّ ـ ولو بعضها على الأقلّ ـ على مشروعيّة الجماعة في النافلة، أمّا الفقه الشيعي فقد وقع بعض الاختلاف في الروايات المعتمدة لديه هنا، حيث يوحي بعضُها باختصاص نفي المشروعيّة بخصوص نوافل شهر رمضان المبارك دون غيرها، وأنّ الجماعة في سائر النوافل مشروعة.
والذي يراجع النصوص الحديثيّة يجد أنّ أغلبيّتها الساحقة واردة في النوافل الليليّة لشهر رمضان خاصّة، تنصّ على ذلك، عدا عدد قليل جداً من الروايات الآحاديّة الضعيفة التي تحمل طابع التعميم مثل مرسلة العلامة الحلّي، كما أنّه من غير الواضح ما فهمه أمثال السيد الخوئي من صحيحة الفضلاء الثلاثة أنّها عامّة لغير شهر رمضان، إذ النصّ واضح حيث يقول: «إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة»، وأمّا خبر الديلمي فضعيف سنداً كما أقرّوا بذلك، رغم أنّ دلالته تحمل تعميماً، وأمّا خبر سليم بن قيس الذي صحّحه بعضهم سنداً، فغير واضح في التعميم؛ لأنّ كلمة «النوافل» فيه يحتمل جدّاً أن تكون عوداً على نوافل رمضان، فتكون الألف واللام للعهد، وهذا كافٍ في التردّد، بل هذه الرواية التي صحّحها الخوئي في بعض بحوثه هي الأخرى قابلة للنقاش سنداً؛ إذ كيف يروي إبراهيم بن عثمان، وهو من أصحاب الإمامَين: الصادق والكاظم عليهما السلام، عن سُليم بن قيس الذي هو من أصحاب الإمام عليّ؟! وقد التفت لهذا الأمر السيد الخوئي نفسه في المعجم، وتابعه فيه غير واحد من تلامذته، لكنّه في البحث الاستدلالي هنا بنى على حُسن هذه الرواية سنداً، واعتمد عليها.
وأمّا دعوى قيام السيرة على عدم إقامة الجماعة في النوافل، فهي لو دلّت فتدلّ على الكراهة الشديدة على أبعد تقدير، لا على التحريم أو عدم صحّة الجماعة أو مشروعيّتها. وأصالة عدم المشروعيّة محلّ نقاش. والشهرة واضحة المدركيّة، فالأقرب هو تخصيص المنع بنوافل شهر رمضان، دون غيرها.
ولعلّ ما يؤيّد ما نقول أنّ روايات صلاة الاستسقاء التي تحدّثت عن الجماعة فيها، لم نجد أحداً من أصحاب أئمّة أهل البيت سأل: كيف تجوز الجماعة فيها وهي من النوافل؟ فلو كان مركوزاً في أذهانهم عدم مشروعيّة الجماعة في النوافل بما هي نوافل، لكان السؤال هنا متوقّعاً.
بل لعلّه يمكن الترقّي أكثر، بالقول: إنّ الذي يظهر لي من مراجعة مختلف أطراف النصوص الحديثيّة أنّ الفقهاء تعاملوا معها من منظار مدرسي، غير أنّنا لو نظرنا إليها ضمن مقاربات سياقيّة تاريخيّة، فسوف نفهم أنّ أفضل طريقة للجمع بين النصوص هو فهم نهي الأئمّة عن الجماعة في نافلة رمضان تعبيراً آخر عن محاربة البدعة، لا تعبيراً عن عدم مشروعيّة الجماعة في نافلةٍ بذاتها، وهذا من القواعد التي أشرتُ إليها في بعض كتاباتي ـ وربما تكون قاعدةً مهمّة مستقاة من مبدأ نظر نصوص أهل البيت للواقع الإسلامي المحيط بهدف تصحيحه، وهو المبدأ الذي طرحه وآمن به السيد البروجردي ـ وهذه القاعدة التي أدّعيها تقوم على أنّ أهل البيت حاربوا بعض الظواهر التي علقت في أذهان المسلمين على أنّها من الشريعة ومندوباتها وسننها وبرامجها، فأصدروا أمراً عامّاً بتحريمها بهدف إماتة البدعة، وكانوا يعتبرون أنّ صلاة التراويح التي هي الصلوات النافلة السائدة في ليالي شهر رمضان بين المسلمين، قد تلقّاها المسلمون بهذه الطريقة ـ جماعةً ـ على أنّها من الشرع الحنيف، في حين ليست هي من الشرع، وإن لم تكن محرّمة في ذاتها، ومن هنا نفهم كيف أنّ بعض الروايات الصحيحة عن أهل البيت سمحت بصلاة النوافل في شهر رمضان جماعة في البيت لا في المسجد، مما يعزّز أنّهم كانوا يريدون إماتة هذه الظاهرة أو على الأقلّ عدم المشاركة في بقائها حيّة؛ لأنّهم يرفضون كون صلاة التراويح سنّة نبويّة، حتى جعلها السرخسي شعاراً للسنّة، كما الجماعة في الفرائض شعار للإسلام على حدّ تعبيره، بل قد نصّوا في الروايات الصحيحة عن أهل البيت أنّها بدعة كصلاة الضحى. ولعلّ هذه القاعدة ـ لو تمّت ـ مفيدة في موضوعات عدّة، مثل قول آمين في الصلاة والتكتّف وغير ذلك، فتأمّل جيّداً.
إنّ فهم هذا السياق وطرح هذه الاحتماليّة التفسيريّة، لا يسمح لنا بعد ذلك بأخذ أغلب النصوص مجرّدةً عن سياقاتٍ معقولةٍ جدّاً، لهذا قد يترجّح بالنظر أنّ النهي عن الجماعة في نوافل رمضان الليليّة هو تعبير آخر عن محاربة عادة دينيّة تلقّاها المسلمون جزءاً من الشرع الحنيف، وهي ليست كذلك، حتى لو شملتها عمومات حُسن الصلاة وأنّها خير موضوع، وغير ذلك. ولهذا حاربوا صلاة التراويح ذاتها ولم يحاربوا الجماعة فيها فقط، فمحاربة الجماعة نوعٌ من دفع أنصارهم لعدم المشاركة.
ولو أنّنا فهمنا هذه السياقات التاريخيّة ولاحظنا طبيعة النصوص، فلن نرَ تعارضاً بين الروايات التي تدلّ على مشروعيّة الجماعة في نوافل رمضان وتلك التي نفت ذلك (في أغلبها لا جميعها)؛ لأنّ النافية ناظرة للظاهرة القائمة في عصر صدور النصّ، فالمشكلة ليست في ذات الجماعة في نافلة، بل في الظاهرة العباديّة التي قامت على اعتبار أنّها جزءٌ من الدين. ولعلّ هذا أفضل أشكال الجمع العرفي بين هذه النصوص، بدل طرح الرواية الدالّة على المشروعيّة؛ بحجّة أنّها موافقة لأهل السنّة.
نعم من الواضح جداً أنّه لا توجد دعوة للجماعة في النافلة، إذ لو كانت مستحبّة ومرغوباً إليها لظهر ذلك وبان، بل يظهر من بعض الروايات والمواقف الفقهيّة عند السنّة والشيعة أنّ الشريعة ترغب أكثر بكون النوافل فرادى، بل في بعضها الترغيب بها في البيت بدل المسجد.
هذا، وهناك تفاصيل أخرى بحثيّة تتعلّق أيضاً بالروايات هنا، نتركها؛ لعدم وجود مجال لها، فإنّ كلامنا هنا مبنيٌّ دائماً على الاختصار.
حيدر حبّ الله
الاثنين 9 ـ 5 ـ 2022م