تعتبر هذه القاعدة من القواعد الشهيرة في أصول الفقه الإسلامي، وبخاصّة في الوسط السنّي، وقد اعتمدتها المجلّة العدليّة في المادّة الثلاثين. وعادةً ما تُبحث عندهم في سياق دراسة القواعد الفقهيّة ومباحث الأشباه والنظائر، لاسيما بمناسبة الحديث عن قاعدة أخرى يُطلق عليها قاعدة: (الضرر يُزال)، إذ تعدّ من توابعها ولواحقها، ولو من جهة اعتبارهم أنّ دفع المفسدة نوعٌ من إزالة الضرر، وبهذا تكون هذه القاعدة ذات صلة تفرّعيّة وثيقة أيضاً بقاعدة نفي الضرر (لا ضرر). كما يبدو أنّها مقبولة عند الإباضيّة.
وتُستخدم لبيان أو عنونة هذه القاعدة صيغ كثيرة يجمعها: درء (دفع/رعاية درء/عناية الشرع بدرء) المفاسد (الضرر/المفسدة/الشرّ/المضرّة) مقدّم (أولى/أهمّ/آكد) على جلب (تحصيل/إيصال) المصالح (المصلحة/المسارّ/الخير/النفع/المنافع). وقد يعبّر عنها بقاعدة «الاجتناب مقدّم على الاجتلاب»، كما تتصل أيضاً بقاعدة «إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام».
وهذه القاعدة يمكن أن تدرس على مستويين: العلم والاحتمال، بمعنى أنّنا تارةً نتكلّم عن أنّ دفع المفسدة المعلومة مقدّم على جلب المصلحة المعلومة، وأخرى نتكلّم عن أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى من جلب المصلحة المحتملة.
لكن لا تُطلق هذه القاعدة على كليّتها كما يتصوّر بعضٌ، بل لها بعض الشروط والقيود، التي تجعلها تقع، في مركز الخلاف فيها، في مقابل قاعدة التخيير، لا غير.
والذي توصّلتُ إليه أنّه لم يثبت وجود قاعدة مستقلّة بعنوانها من هذا النوع (درء المفسدة المعلومة أو المحتملة أولى من جلب المصلحة المعلومة أو المحتملة)، بل ليس هناك إلا قاعدة واحدة، وهي قاعدة تقديم الأهمّ على المهمّ، فقد تكون المصلحة أهمّ من المفسدة، فتقدَّم المصلحةُ، وقد تكون المفسدة فتقدّم المفسدة، وعندما تتساوى المصلحة مع المفسدة في الأهميّة والخطورة فإنّ القاعدة هو التخيير لا دفع المفسدة، وعليه فقاعدة تقديم درء المفاسد ـ والتي تُتَّهم بأنّها المسؤولة عن تثبيط حركة المسلمين وعن هيمنة قلق المفسدة عليهم على أمل المصالح، وبخاصّة في فقه المستقبليّات ـ هي قاعدة غير ثابتة بما هي قاعدة.
وقد بحثتُ هذه القاعدة وأدلّتها والمناقشات حولها في كتابي: (فقه المصلحة مدخلاً لنظريّة المقاصد واجتهاد المبادئ والغايات: 489 ـ 509، الطبعة الأولى، 2019م)، فراجع.
حيدر حبّ الله
الثلاثاء 12 ـ 7 ـ 2022م