عرض الفكرة والآراء الفقهيّة
المشهور بين فقهاء المسلمين اشتراط الصيغة اللفظيّة أو الإنشاء اللفظي في عقد الزواج، بصرف النظر عن تحديد شكل الصيغة وبأيّ لغةٍ هي، فما يشيّد عقدَ الزواج لابدّ أن يكون لفظاً معيّناً يتلفّظ به الطرفان أو وكيلهما.. أمّا النكاح بغير صيغةٍ لفظيّة أو على نحو المعاطاة، كأن يعطي الرجلُ المرأة المهرَ قاصداً تزوّجها وتأخذ المرأةُ المهرَ قاصدةً قبول هذا الزواج، أو ما شابه ذلك، فهذا باطل لا تُبنى عليه أيُّ زيجة في الإسلام. وهذا يعني أنّ الأفعال لا تمثل أدوات لتكوين عقد الزواج، بل لابدّ من صدور أقوال وألفاظ تلعب دور الإنشاء هذا، وبتعبير فقهي خاصّ: إنّ المسبَّب في النكاح لا يوجد إلا بسببٍ لفظيّ لا غير.
وخالف في ذلك صريحاً عددٌ نادر من العلماء، من أبرزهم: الشيخ صادق الخلخالي، والشيخ محمّد الصادقي الطهراني. وذهب إلى ذلك أيضاً الشيخ محسن الأراكي، غير أنّه احتاط في آخر بحثه في المسألة. كما أنّ السيّد محمّد محمّد صادق الصدر بنى المسألة على الاحتياط الوجوبي دون الفتوى. وقد تحوّل هذا الموضوع إلى موضوع إشكاليّ في العقود الأخيرة، فصُنّفت فيه مصنَّفات مستقلّة، منها كتاب “المعاطاة في النكاح” للشيخ محمد جواد فاضل اللنكراني وغيره.
عرض وجهة النظر الخاصّة
والذي توصّلتُ إليه أنّ النكاح عقدٌ يحتاج إلى تراضٍ قلبي على هذا الاقتران القانوني من جهة، وإلى إبرازٍ لهذا التراضي بهدف تكوين العُلقة العقديّة من جهةٍ ثانية، فالتراضي أو التوافق لوحده غير كافٍ، وهذا الإبراز يمكن أن يكون باللفظ، ويمكن أن يكون بأيّ وسيلة أخرى تُعتبر إبرازاً واضحاً للتوافق والتراضي، على أن تكون تمام الأمور المتوافَق عليها والمشروطة في النكاح مأخوذة حال الإبراز الفعلي واللفظي معاً. وبهذا نميّز ـ خلافاً لما وقع فيه بعضٌ ـ بين مسألة عدم اشتراط اللفظ في عقد النكاح ومسألة تجويز النكاح المعاطاتي مطلقاً، فإنّ النكاح المعاطاتي إن قُصد به عدم اشتراط اللفظ في صحّة العقد فهو صحيح، وأمّا إن قصد به إنشاء العقد بنفس تسليم المرأة جسدها للرجل في مقابل نفس تسلّمها المهر، شبيه حال المعاطاة في البيع، فهذا غير مشروع حتماً؛ وهذا هو فارق النكاح المعاطاتي عن البيع المعاطاتي؛ إذ التسليم والتسلّم في البيع كلاهما جائز في نفسه، بخلافه في النكاح، فجواز تسليم المرأة جسدها متوقّفٌ على وجود العقد مسبقاً، فكيف يكون هو الموجِد للعقد؟! وبعض الأدلّة الآتية يمكن تصحيحها في إبطال هذا العقد المعاطاتي بهذا الشكل خاصّة، فلاحظ. أمّا استخدام أيّ وسيلة أخرى للتعبير عن العقد ولو لم تكن لفظاً، كالإشارة أو توقيع الطرفين على المعاملة التي كتبها ثالث، أو نفس إقامة مراسم الزفاف بوصفها إنشاءً للعقد وإبرازاً للتراضي وغير ذلك، فهذا يصحّح العقد مع القصد والتراضي. وبهذا نعرف أنّ الزواج بأيّ مبرِزٍ يقع صحيحاً إلا إذا كان المبرِز للعقد من نوع تسليم المرأة جسدها للرجل.
جولة عابرة وموجزة في أبرز الأدلّة والمناقشات
وقد استدلّوا لمنع المعاطاة والعقد غير اللفظي هنا بمجموعة من الأدلّة، سوف أناقش باختصار شديد في دلالتها على شرطيّة اللفظ، لا في تصحيحها المعاطاة مطلقاً كما أشرتُ آنفاً، فانتبه.. من نوع أصالة الفساد الأوّليّة، التي يمكن الجواب عنها بأصالة الصحّة الثانويّة وكون النكاح غير اللفظي مشمولاً للعمومات بل وللارتكازات. وبالإجماع، وهو محتمل المدركيّة جداً، ولا أقلّ من احتمال كونه نشأ عن ذهابهم لأصالة الفساد ومرجعيّة الاحتياط التي اعتمدوا عليها كثيراً في باب النكاح بالخصوص. وبعدم الفرق في المعاطاة، بل في مطلق المبرز غير اللفظي، بين النكاح والسفاح، والفرق واضحٌ في المبرِز غير اللفظي إذ هو راجع إلى الاعتبار القانوني والقصد الإنشائي من الطرفين، خاصّة لو كان هو المتبانى عليه في العرف، فإنّنا لا نقول بكفاية التراضي القلبي في النكاح، بل نرى أنّه لابدّ له من مبرِز يتمّ به إنشاء العقد، غاية الأمر أنّنا لا نوافق على حصر المبرِز باللفظ، بل يمكن أن يكون بأيّ تعبير ولو غير لفظي يُعتبر عند الطرفين إنشاءً للعقد مقصوداً. وبكونه مجرى السيرة العقلائيّة، ولو ثبت ـ ولا دليل على كونه سيرة عقلائيّة، بل سمعنا أنّ بعض الأقوام والشعوب لا يبنون على اللفظ في النكاح ـ فلا دليل على إبطالهم غيره، بل غايته شيوع هذه الطريقة في إبراز الرضا الباطني وإنشاء التوافق. وبصحيحة بريد العجلي، وهي بصرف النظر عن المناقشة في متنها وفي كونها خبراً آحاديّاً، غيرُ دالّة؛ لأنّ الرواية ليس فيها إطلاق من هذه الناحية؛ كونها في مقام تفسير الآية، لا في مقام بيان هويّة العقد، فلعلّها ـ كما أفاد أمثال الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ـ ناظرة إلى العقد المتعارف في الخارج، وتريد تبيين الآية من خلاله، دون دلالة على الحصر والاشتراط. وبالنصوص الواردة في بيان صيغ عقد النكاح (راجع: الباب الأوّل والثاني من أبواب عقد النكاح، والباب الثامن عشر من أبواب المتعة، من كتاب تفصيل وسائل الشيعة) وهي متعدّدة، وكلّها ناظرة إليه بوصفها لفظاً، فتدلّ على مفروغيّة اشتراط اللفظ.. لكنّه غير دقيق؛ إذ فضلاً عن كون بعضها أقرب لعدم خصوصيّة اللفظ، فإنّ غاية ما تفيد أنّ الصيغة اللفظيّة هي المتعارفة، وأنّ النبيّ والإمام كانا يستعملانها في إجراء العقد، وكانا يعلّمان كيفيّة استعمالها في ذلك حتى تكون كافية في البيان الصريح، لا أنّه لابدّ منها، ويشهد لذلك اختلاف تعابير الروايات جداً في كيفيّة بيان العقد، فلو كانت في مقام البيان حقّاً للزم وقوع تعارض كبير بينها، وربما هذا ما دفع أمثال الحرّ العاملي لفهم بعض هذه النصوص على أنّها سابقة على العقد، لا أنّها تبيّن العقدَ نفسه، بل بتقديري هي شارحة لمضمون ما يلزم أن يتمّ التوافق عليه، لا لصيغته ولفظه، ومفهومُها ملحوظٌ فيه ذلك لا أنّه يُلحظ فيه شرطُ اللفظ. وأمّا روايات نفي الهبة واختصاصها بالنبيّ، فهذه ناظرة لعدم وجود المهر، لا للصيغة، ولهذا صرّحت ببطلان العقد مبيّنةً أنّه يلزم وجود المهر في هذه العلاقة، لا أنّه يلزم بيان ذلك لفظاً في العقد نفسه. وأمّا الروايات التي تقول: بكلماتك استحللت فرجَها، فهذا أيضاً جارٍ على الغالب المتعارف لا على الاشتراط، ومثله في الأدعية غير عزيز. وكذا الحال في السيرة المتشرّعية. والخلاصة: إنّه لو فهمنا بشكل تاريخي جيّد أنّ العرف العام قائم على الزواج اللفظي، وأنّه هو الطريقة المتبعة السائدة، فسوف نفهم جميع هذه النصوص في سياقها التاريخي هذا بلا دلالة على الشرطيّة، إذ ما دام العقد المتعارف عليه هو العقد اللفظي، فمن الطبيعي أن تُستخدم جميع هذه التعابير لضبط العقد اللفظي، وحاول أن تجرّب فهمها ضمن هذا السياق تجد صدق ما أقول. ومشكلة التفكير في مثل هذه القضية أنّه يُتصوّر أنّ الشيء الذي اعتادوا عليه هو الشرعيّ لا غير، فلعلّ اعتيادهم كان لكونه مستحبّاً للغاية أو أكثر وضوحاً ودفعاً للالتباس. وأمّا دعوى إلحاق النكاح بالعبادات وأنّه مورد الاحتياط وفيه صبغة مقدّسة وغير ذلك من التعابير، فلا يغيّر من واقع الأمر شيئاً هنا، فإنّ الدليل مقدّم على هذه العناوين، ولو نفعت ففي الاحتياط الوجوبي لا في الفتوى. ودعوى عدم إمكان تصوّر العقد غير اللفظي في النكاح غريبة. وتجويز النكاح غير اللفظي، لا يعني الزواج المدني وأمثاله، كما يخلط بعضُ الناس، بل المراد به هو النكاح الشرعي ضمن القيود والضوابط والمرجعيّات الشرعيّة الكاملة، غاية الأمر أنّه يتمّ إنشاؤه بغير اللفظ، فاللفظ مأخوذ عندنا على نحو الطريقيّة لا الموضوعيّة تماماً كما هي الحال في سائر العقود.
هذا، وقد ذكر القائلون بتصحيح المعاطاة في الجملة بعضَ الأدلّة الخاصّة من الروايات، غير أنّها أدلة غير مقنعة، فالعمومات والبناءات العقلائيّة هي المرجع هنا ـ بعد بطلان أدلّة شرط اللفظ ـ لا رواية أو روايتين يُراد الاستدلال بهما على تصحيح المعاطاة مطلقاً، وفيهما مشاكل سنديّة أو دلاليّة.
ويجب أن أشير إلى أنّ فكرة شرط اللفظ في النكاح تختلف عن فكرة إعلان النكاح الذي لا تشترطه الإماميّة، وهذا ما يوضح مقصودنا أكثر، فلو تمّ إعلان النكاح رسميّاً وكان عُرف منطقة معينة يقضي بأنّ العقد بغير اللفظ، رغم أنّ مقدّمات العقد قد تكون توافقات لفظيّة، فأيّ مشكلة في ذلك؟! وبهذا يظهر أنّ الكتابة كافية، فلو كتب شخصٌ ثالث العقدَ، ثم أعطى الورقة للطرفين، فوقّعا عليها، كفى. والمسألة فيها تفصيل كثير لا يسعه هذا المختصر.
حيدر حبّ الله
الثلاثاء 18 ـ 1 ـ 2022م