عدّ فقهاء الإماميّة من تروك الإحرام استعمال الطيب الشامل لشمّه وأكله ووضعه على البدن والثياب وغير ذلك، فلا يجوز للمحرم أن يستعمل الطيب، بكلّ أنواع الطيب أو بأنواع خاصّة منه، على خلاف بينهم في ذلك. أمّا الفقه السنّي فالمعروف المتفق عليه هو حرمة استعمال الطيب في البدن واللباس ونحو ذلك، أمّا خصوص الشمّ دون شيء آخر معه، فحرّمه مشهور الحنابلة، وكرهه مشهور البقيّة.
لكنّ فقهاء الإماميّة استثنوا موارد، منها خَلُوق الكعبة، وروائح القبر النبوي، والطيب الذي يأتي من سوق العطّارين الذي كان يقع بين الصفا والمروة، فجوّزوها اعتماداً على ورود بعض الروايات في استثنائها، فلا يجب على المحرم الذي يسعى أن يقطع نَفَسَه أو يضع يده على أنفه وهو يمرّ بمنطقة سوق العطارين بين الصفا والمروة، بل له أن يستمرّ بسعيه بشكلٍ طبيعي وأن يتنشّق الرائحة المنبعثة من سوق العطارين أو زقاق العطارين، وأمّا في غير حال السعي فبعضهم رفض الاستثناء وبعضهم احتاط فيه وجوباً. وما زالت هذه الفتوى المستثنية لروائح مثل سوق العطّارين بين الصفا والمروة موجودة إلى اليوم في أغلب كتب الفقهاء ورسائلهم العمليّة، إلا القليل جدّاً منهم، مثل السيد محمّد حسين فضل الله والسيّد محمود الهاشمي وغيرهما، حيث حذفوا استثناء سوق العطّارين وأبقوا على استثناء خَلوق الكعبة، والظاهر أنّهم اعتبروا أنّ مسألة سوق العطارين لم يعد لها موضوع في عصرنا. هذا وبعض الفقهاء ـ مثل السيد موسى الشبيري الزنجاني ـ لم يوافق أصلاً على استثناء روائح سوق العطّارين.
والذي توصّلتُ إليه أنّ هذا الحكم ـ لو قلنا بثبوته، واحتماله معقول ـ يبعد جدّاً كونه استثناءً تعبديّاً، بل العُرف يفهم نكتته الارتكازيّة، وهي التسهيل على الحجّاج والمحرِمين الذين لا يقصدون شمّ هذه الروائح العطرة، بل تمرّ عليهم وهم بصدد السعي، إذ في العادة يكون من الصعب عليهم أن يمسكوا أنوفهم عن روائح زقاق العطارين، فلو فرضنا أنّ سوق العطّارين كان في ذلك الزمان في منى مثلاً، وكان يمرّ به الحاجّ، فهل هناك خصوصيّة للروائح في سوق العطّارين الذي بين الصفا والمروة فلا يشمل غيره؟ وهل كان الإمام سيمنع من سوق العطّارين في منى ويسمح به في المسعى؟ وهل ثمّة بُعدٌ أسراري في القضيّة؟ إنّ العرف يفهم هنا النكتة التعليليّة فهماً عرفيّاً انسباقيّاً بمناسبات الحكم والموضوع.
وعليه، ينبغي صياغة الموقف الفقهي على الشكل الآتي: يحرم على المحرِم استعمال الطيب إلا إذا كان في مكان يصادفه فيه ـ حال كونه بصدد القيام بأمر عبادي، ولو مستحبّ، في الحجّ أو العمرة ـ رائحة الطيب غير قاصد لشمّها، وبخاصّة عندما يكون في إلزامه بإمساك أنفه نوعٌ من الحرج ولو العرفي العادي، ويشترط أن لا يتلذّذ المحرم بشمّ هذه الروائح، فهذا هو القدر المتيقّن من مفاد النصوص، وفقاً للمنهج الانضمامي في فهم مجموع نصوص استعمال الطيب. وبناءً عليه فلو فرضنا أنّ الدولة التي تُشرف على الحجّ اليوم قامت، لسببٍ أو لآخر، بتعطير المسعى كلّه أو زاوية منه، فإنّ الحكم يكون شاملاً، وهكذا. فلا خصوصيّة للسوق، ولا لوجود من يبيع العطور، ولا للمسعى. وبهذا يظهر أنّه لا ينبغي حذف استثناء سوق العطّارين من الفتاوى، بل الأفضل تغيير الصياغة عبر تغيير فهم هذه الاستثناءات.
والمستند العمدة لهم في سوق العطّارين، رواية هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال: سمعته يقول: «لا بأس بالريح الطيّبة فيما بين الصفا والمروة من ريح العطّارين، ولا يمسك على أنفه»، فإنّ النهي في ذيلها لرفع التحريم المتوقّع، وفي رواية الجعفريات بالسند إلى الإمام علي ـ عليه السلام ـ أنّه سُئل هل يجلس المحرم عند العطّار؟ قال: «لا، إلا أن يكون مارّاً»، بل يمكن أن نضمّ هنا أنّ سوق العطارين كان حالة ابتلائيّة عامّة عبر التاريخ، فندرة وجود روايات فيه يمكن أن يكون شاهداً على ارتكاز الترخيص في مثل هذه الموارد بما يساعد على تقوية مضمون خبر هشام بن الحكم، وأنّ المتشرّعة فهموا من التحريم غير هذه الحالات، وربما كان سيُعرف أيضاً أنّ الشيعة يمسكون أنوفهم مثلاً في هذه المنطقة، وهو ما لا عين له ولا أثر في الموروث الشيعي أو الإسلامي. هذا مضافاً لبعض روايات خَلوق الكعبة وروائح القبر النبوي.
حيدر حبّ الله
الجمعة 11 ـ 2 ـ 2022م