المعروف بين علماء المسلمين ـ إلا القليل جدّاً منهم ـ أنّ الشريعة الإسلاميّة جاءت لتغطّي مختلف جوانب الحياة، فكلّ أمرٍ صغيرٍ أو كبير في حياة الإنسان فإنّ للشريعة فيه حكماً، وهذا ما يتعارف عليه بقاعدة نفي الخلوّ، والتي تقول: «لا تخلو واقعةٌ من حكم». وعلى هذا الأساس فكلّ الوقائع القديمة والجديدة، السابقة والمستجدّة.. للشريعة فيها موقفٌ من تحريم أو وجوب أو ترخيص أو غير ذلك.
ووفقاً لهذه الفرضيّة المسبقة فإنّ الفقيه يُفترض أن يشتغل على استنباط حكمِ كلّ واقعة، فإذا صار هناك أمرٌ مستجدّ مثل السفر إلى القمر، فإنّ الفقيه مطالَب بالبحث عن الأدلّة بهدف تحديد الصلاة وشروطها وكيفيّاتها واستقبال القبلة هناك، وتقديم أجوبة على هذه الاستفتاءات، وهكذا الحديث عن الاستنساخ فإنّ الفقيه يبحث في مقتضيات الأدلّة في تحديد الموقف منه ومن ملحقاته وتوابعه مثل الإلحاق النسبي وغير ذلك. وكذلك الحديث عن اللحم المصنَّع فإنّ الفقيه يبحث عن جواز أكله من حيث عدم وجود ذبح شرعي أصلاً فيه؛ حيث لا يوجد حيوان أساساً، وأنّه أيضاً ملحقٌ بعنوان الحيوان الذي تمّ تصنيعه منه أو على شاكلته أو لا؟ وهكذا إلى ما شاء الله من قضايا البيئة والتنظيم المدني وشكل الدولة وفقه الفضاء و..
ويعتمد الفقهاء هنا في استنباط الأحكام تارةً على عمومات ومطلقات النصوص باعتبار العموم والإطلاق طاقةً دلاليّة قادرة على التغطية، وأخرى على مقتضيات الأصول العمليّة من البراءة والاحتياط والاستصحاب وغير ذلك، وثالثة على قواعد وآليات مختلفة لا داعي للإطالة بالحديث عنها هنا.
وبدخول العصر الحديث، تنبّه بعضُ الفقهاء إلى سعة الوقائع والتحوّلات والمستجدّات، فمنحوا ـ منذ عصر الميرزا النائيني وإلى اليوم ـ سلطةً للفقيه أو لوليّ الأمر أو للمجالس التشريعيّة في سنّ القوانين والتشريعات المتناسبة مع المصالح العامّة، وظهر ما صار يُعرف بمنطقة الفراغ، غير أنّ هذا الفريق من العلماء لم يصرّح بوضوح بعدم اعتقاده بشمول الشريعة، بل على العكس أحياناً حيث اعتبر بعضهم أنّ منطقة الفراغ ودور وليّ الأمر فيها لا يعبّر عن نقص في التشريعات الدينيّة، بل عن شموليّة وكمال، ولهم في ذلك قراءات وتحليلات متعدّدة.
في المقابل ظهرت تيارات فكريّة تعتبر أنّ الشريعة لا تحتوي إلا على أقلّ القليل من الأحكام التي تحتاجها الوقائع، وأنّ الغالبية العظمى من الوقائع يجب الرجوع فيها إلى الكليّات العامّة العقلية والأخلاقيّة والقيمية، فتحدّثوا عن الفقه بحدّه الأدنى وطالبوا بتقليص دوره إلى أكبر حدّ ممكن.
ويعتبر هذا الموضوع في تقديري من أهمّ الموضوعات التي تحتاج لمراجعة عميقة؛ لأنّ الجواب عن سؤال الشموليّة يمكنه التأثير على تحديد منهج الاجتهاد ومساحته ودور الفقه والفقهاء في الحياة الإسلاميّة، وهذا ما دفعني للاشتغال على هذا الموضوع مدّةً من الزمان، وقد ألقيتُ 113 محاضرة في ذلك على طلاب البحث الخارج في الحوزة العلميّة في قم، واستعرضتُ مختلف الاتجاهات والأفكار في حدود إمكاناتي المتواضعة، ثم أصدرتُ أعمالي في كتاب حمل عنوان (شمول الشريعة، بحوث في مديات المرجعيّة القانونيّة بين العقل والوحي)، وذلك في 820 صفحة، طبع دار روافد، في بيروت، لعام 2018م.
والحديث هنا طويل، لكن عصارة ما توصّلتُ إليه هو رفض الاتجاهات القائمة اليوم، سواء تلك المنادية بشمول الشريعة في الحدّ الأعلى، أم تلك المنادية بحلولٍ تفترض الانسجام مع شمول الشريعة مثل منطقة الفراغ (محمد باقر الصدر وآخرون)، أو تلك المنادية بالفقه والشريعة بالحدّ الأدنى (سروش ـ شبستري ـ علي عبد الرازق ـ مهدي بازركَان، وغيرهم)، فرأيت ـ والعلم عند الله ـ أنّ الشريعة الواقعيّة لا تغطّي مختلف وقائع الحياة، وليس هذا نقصاً فيها، بل هو جزءٌ من برنامجها، لكنّ هذا لا يعني أنّها تغطّي مساحة قليلة جدّاً أشبه بالمختفية كما يرى الفريق الثالث، بل تغطّي مساحة واسعة، لكنّها لا تبلغ مستوى الاستيعاب التامّ. ولك أن تقول: إنّ شموليّة الشريعة دستوريّةٌ وليست شموليّةً قانونيّة. وقد استعرضتُ في الكتاب مختلف الأدلّة العقلية والقرآنية والحديثية وغيرها والتي تقف لجانب نظريّة الشمول المشهورة، وكانت لي مناقشات متصلة بها جميعاً.
وينتج عن هذه القراءة أنّ الاجتهاد يجب أن يقوم في البداية بخطوة لمراجعة الأدلّة المحرزة، فإنّ تمّ وجود دليل شامل بغير تكلّف (وقد تحدّثتُ عن موضوع التكلّف في الكتاب) فبها ونعمت، حيث يمكن للعمومات والمطلقات تغطية مساحة غير قليلة، وإن لم نعثر على دليلٍ له هذه القدرة، ففي هذه الحال يقوم الإنسان (السلطة التشريعيّة البشريّة) بسنّ القوانين اللازمة لتنظيم الوقائع غير المشار إليها في النصوص، بلا حاجة للذهاب خلف أصالة البراءة، بل المحكَّم هو أصالة عدم الجعل لا أصالة البراءة. والإنسان الذي يقوم بعملية سنّ القوانين ـ سواء كان فرداً أم جماعة ـ يراعي في سنّ القوانين عدّة أمور، منها عدم مخالفة القانون لأيّ تشريع إسلامي ثابت، ولا مخالفته لأيّ مقصد شرعي مؤكّد وغير ذلك من الشروط.
وينتج عن منح العقل الإنساني المؤمِن سلطةَ سنّ القوانين في (منطقة الفراغ الحقيقيّة) أنّ مختلف هذه التشريعات في هذه المنطقة ستصبح بشريّةً، يمكن معارضتها ومناقشتها والاختلاف معها، ولا يصحّ نسبتها للدين ولا لله، لكنّ بشريتها لا تعني أنّها غير ملزِمة، بل هي ملزمة لاعتبارات عدّة تطرّقتُ إليها هناك، فيجب طاعة القوانين الصادرة عن الجهات الشرعية المكلّفة في الدولة أو المجتمع سنَّ القوانين، بعد التثبّت من شرعيّة هذه الجهات، لا لأنّ هذه القوانين والتشريعات عبارة عن فتاوى أو أحكام الله، بل لأنّه يجب طاعة السلطة الشرعيّة الراجعة لسلطة الاجتماع والتوافق أو غير ذلك طبقاً للنظريّات المختلفة في الفقه السياسي، مع حقّ الجميع في الاعتراض والنقاش والاختلاف مع هذه السلطة في هذا القانون أو ذاك. فالسلطة الشرعيّة تسنّ القوانين وتعرضها على مجلس الفقهاء لا للتأكّد من أنّها قوانين دينيّة، بل للتثبّت من عدم معارضتها للشريعة والدين، وفرقٌ كبير بين إثبات كونها جزءاً من الشريعة، والحديث عن كونها غير معارضة للشريعة، فانتبه.
وتترك النتيجة التي توصّلتُ إليها تأثيرات متعدّدة، من نوع تراجع بعض أشكال نظريّة القياس، وبعض نظريّات فقه المصلحة، وكذلك تترك تأثيرات على كيفيّة التعامل مع الدلالات اللفظيّة في النصوص، وكذلك على كيفيّة التعامل مع الأصول العمليّة، بل وكذا على كيفيّة الاجتهاد في فقه النوازل وعلى قضايا متصلة بفقه النظام وغير ذلك مما تحدّثتُ عنه بالتفصيل في الكتاب المشار إليه.
ويهمّني أخيراً الإشارة في هذا المختصر إلى أنّه قد كُتِبَت أو ألقيت بعض المحاضرات والكتابات في نقد ما قدّمتُه في هذا الكتاب، وإنّني إذ أشكر الناقدِين الموقَّرين ـ وبعضهم من أفاضل العلماء الذين نجلّهم ونحترمهم ـ أتمنّى أن تحظى كلّ الأعمال البحثيّة بمناقشات ونقد وتقويم لنحيا بجدّ حياةً علميّة ملؤها الاحترام المتبادل والنقد البنّاء والتقويم الموضوعي، فما أقدّمُه ليس إلا مبلغي من العلم، ولا شكّ أنّ ما لا أعلمه أكثر بكثير جدّاً مما أعلمه، هدانا الله دوماً للرشاد والتوفيق.
وأعتقد بأنّه بسبب هذه النتيجة التي توصّلتُ إليها في شمول الشريعة، فإنّ جملة من النتائج الفقهيّة أو المواقف التي أتوصّل إليها سوف تختلف عن المشهور وبخاصّة في القضايا المستحدثة وفقه النوازل وطريقة التعامل معها. كما أنّني في كتاباتي الفقهيّة إذا استخدمتُ عبارة «يجوز» أو «جائز»، فإنّ هذا لا يعني بالضرورة أنّ هناك حكم شرعي توصّلتُ إليه، وهو الجواز، بل هو أعمّ من وجود حكم شرعي بالترخيص، وعدم وجود حكم أساساً.
حيدر حبّ الله
الخميس 19 ـ 5 ـ 2022م