المشهور المعروف بين الفقهاء هو أنّه يُشترط في الرضاع الموجب لنشر الحرمة، أن يرتضع الطفل من ثدي المرأة مباشرةً، فلو أخرجت المرأة اللبن (الحليب) من ثديها ثمّ أطعمته إيّاه عبر زجاجة فارغة، أو تمّ تحويله لجبن فأكله، وغير ذلك من الحالات، فإنّ ذلك لا يوجب نشر الحرمة، فعمليّة الارتضاع (مصّ الطفل للثدي) مأخوذة شرطاً مقوّماً هنا لتحقيق نشر الحرمة وترتيب آثار الرضاع.
وخالف ابنُ الجنيد ـ فيما يُنسب إليه ـ هذا القولَ، ورأى نشر الحرمة بمطلق تناول الطفل للبن. بل نُسب للشيخ الطوسي في بعض كتبه ذلك أيضاً وأنّه ادّعى عليه الإجماع، وذهب إليه بعض فقهاء اهل السنّة. ومن المعاصرين ذهب السيد محمّد حسين فضل الله لنشر الحرمة بتناول الطفل اللبن ولو من دون الارتضاع المباشر، واحتاط الشيخُ محمّد الصادقي الطهراني، وكأنّه متوقّف في المسألة ، فيما استحسن الاحتياط ـ لا بنحو اللزوم ـ الشيخُ حسين علي المنتظري.
والذي توصّلت إليه ـ بنظري المتواضع ـ هو أنّ المعيار كما يُفهم من النصوص تحقّق النموّ الجسدي في الطفل نتيجة أخذ اللبن، فلو أخذه لا بالارتضاع من الثدي، وتحقّق المعيار، يمكن القول بنشر الحرمة، وعلى الأقلّ هو مقتضى الاحتياط الوجيه فيما يجري فيه الاحتياط هنا. بل حتى لو قلنا بأنّ فلسفة التحريم في الرضاع هو أنّه عاش مع تلك المرأة مدّة من الزمن بحيث صارت أمَّه كما كان متعارفاً بين العرب، فإنّ هذا الأمر لا فرق فيه بين أن ترضعه من الثدي أو من غيره أو منوّعاً بين الطرق.
والمستند العمدة لدى المشهور هنا هو استخدام مفردة الرضاع ومشتقاتها في النصوص الدينيّة، فإنّ هذا التعبير الوارد في الكتاب والسنّة لا يشمل حالة تناول الطفل للبن دون أن يلتقطه بالمصّ من الثدي مباشرةً، بل في بعض الروايات تعبير «إلا ما ارتضع من ثديٍ واحدٍ سنة» مثلاً، وعليه فلا تترتّب الآثار بمجرّد التناول، ولهذا لا نقول بأنّنا نرتضع من الغنم والماعز لأنّنا نشرب حليبها! بل قد ورد في بعض الروايات أنّ المرأة لو أخذت لبنها وسَقَتهُ زوجَها لكي تحرم عليه.. أنّه يمسكها ولا تحرم عليه، على أساس أنّ المحتمل جداً في هذه الرواية نظرها إلى الزوج الصغير، إذ لا معنى لنشر الحرمة ـ فيما هو المعروف ـ في الطفل ما فوق الحولين.
غير أنّ هذه الوجوه برمّتها قابلة للنقاش بنظري القاصر، فإنّ استخدام النصوص مفردة الرضاع وإن أفاد لغةً ذلك بلا نقاش، أو كان في طبعه منصرفاً لذلك، لكنّ هذا الاستخدام إذا كان لإفادة تناول اللبن فهو أمرٌ طبيعي أيضاً؛ بمعنى أنّ الوسيلة المتاحة في الغالبيّة الساحقة من حالات إطعام الطفل لبن امرأة هو الرضاع، فإذا أريد ضمن هذا السياق التعبير عن نشر الحرمة بتناوله اللبن، فإنّ تعبير الرضاع سيكون أمراً طبيعيّاً، وهذا بخلاف تناول لبن الماعز مثلاً إذ ليس المتعارف هو الارتضاع المباشر منها، بل تناول لبنها بعد الحلب. ويتعزّز افتراض استخدام الرضاع بوصفه مجرّدَ طريق لتحقّق تناول اللبن، أنّ المعيار الأساس الذي وضعته النصوص في باب الرضاع هو النموّ الجسدي، كما قلنا سابقاً، وبناءً عليه فإنّ المدار هو النموّ الجسدي باللبن، واحتماليّة وجود خصوصيّة في نفس الارتضاع من الثدي واردةٌ، لكنّ العرف لا يُلاحظها في فهم النصوص، بل يلغيها في مقام الفهم لا في مقام العلّة المستنبطة فانتبه. وبالإمكان ملاحظة موارد أخرى توجب الوثوق بذلك، فالرضاع ـ لما يكون معياره النموّ الجسدي ـ يفهم منه أيضاً أنّه طريق لتناول اللبن عند العرف وليس خاصيّة قائمة بنفسها.
وأمّا مثل الرواية التي استخدمت تعبير الثدي كما ألمحنا إليها، فهذا لا يفيد هنا؛ لأنّ نظر هذه الرواية وأمثالها ليس لبيان اشتراط الارتضاع، بل لبيان مدّة الرضاع وأمثال ذلك، فقد جاء فيها: «لا يحرم من الرضاع إلا ما ارتضع من ثديٍ واحد سنة»، فإنّ تعبير الثدي هنا لا يراد منه تبيين خصوصيّة الرضاع؛ لأنّ تعبير الرضاع في مطلع الحديث لو كان مفيداً لأفاد مباشرةً، لكنّ الرواية ناظرة لوحدة المرأة المرضعة مع المدّة الزمنيّة لا لموضوع الارتضاع من الثدي، فالثدي الواحد تعبيرٌ آخر عن المرأة المرضعة الواحد.
وأمّا روايات عدم الحرمة بين الزوجين لو سَقَت الزوجةُ لبنها لزوجها، فإنّ دعوى نظرها وأمثالها للزوج الصغير فيها تأمّل؛ إذ لو كانت هذه المرأة تريد تحريم نفسها على زوجها الصغير، فلماذا لم ترضعه مباشرةً؟! فإنّ الأقرب أنّ المراد نفي التحريم بين الزوجين نتيجة تجاوز السنّ وهو الحولين، خلافاً لما قد يُفهم من بعض التراث الفقهي والحديثي عند أهل السنّة، فالرواية وأمثالها غير واضحة الدلالة هنا، بل تعطي مجرّد احتمال.
بل يمكن تأييد النتيجة التي نذهب إليها ببعض الأخبار ضعيفة الإسناد، فقد ورد في مرسل الصدوق: «وجور الصبيّ بمنزلة الرضاع»، وفي خبر الجعفريّات جاء: «إذا أوجر الصبيّ أو أسعط باللبن فهو رضاع». وحملُ هذه الروايات على التقية كما فعل بعض الفقهاء لا داعي له بعد ما قلناه، بل هي منسجمة مع تنقيح المناط، بل فهم المناط من خلال نصوص الإنبات والاشتداد.
والمجال لا يسع لمزيد تفصيل، فنكتفي بذلك.
حيدر حبّ الله
الأربعاء 4 ـ 5 ـ 2022م