اهتمّ الفقهاء الشيعة والسنّة، وقبلهم الأصوليّون، بدراسة شروط المفتي والمقلَّد، ونوع وشكل العلاقة بينه وبين المستفتي والمقلِّد، حيث شغلهم هذا الموضوع عبر التاريخ، واشتملت الكتب الأصوليّة على ما يُعرف بباب المفتي والمستفتي، قبل أن ينتقل هذا الموضوع للمدوّنات الفقهيّة، وبخاصّة في العصر الحديث عند الشيعة الإماميّة، بل صُنّفت كتبٌ مستقلّة تحت هذا العنوان، من بينها ـ على سبيل المثال ـ كتاب “صفة المفتي والمستفتي” للقاضي نجم الدين أحمد بن حمدان الحنبلي (695هـ).
في العصر الحديث، وعقب تنامي نشاط الفقهاء في الحياة السياسيّة والعامّة منذ نهايات القرن التاسع عشر وإلى اليوم، أخذت بعض الشروط تضاف أكثر فأكثر، سواء في المقاربات الفكريّة أم التحليلات الفقهيّة، أم حتى في بعض الكتب الفتوائيّة والرسائل العمليّة. وواحد من هذه الشروط التي ذكرها بعضٌ ـ مثل السيّد محمود الهاشمي ـ هو امتلاك المرجع لكفاءة التصدّي للأمور العامّة، فمن دونها لا يجوز تقليده.
والذي توصّلتُ إليه، هو أنّه ليس هناك دليلٌ مقنع على شرطٍ من هذا القبيل (شرط الكفاءة في التصدّي للأمور العامّة)، في المفتي ومرجع التقليد، وكذلك مثل شرط الشجاعة وأمثاله ـ بعيداً عن شرط العدالة ـ مما كثر تداوله في أدبيّات الإسلام الحركي في القرن العشرين، فلم يرد هذا الأمر في كتابٍ أو سنّة أو قاعدة.
بل في تقديري، فإنّه وقع خلطٌ هنا بين شروط المتصدّي لشؤون الولاية والسلطة، وشروط المرجع، وقد تعرّضتُ باهتمام لمسألة الخلط بين شروط المرجع بما هو مرجع، وشروط من له الولاية العامّة أو الخاصّة بما هو وليٌّ عام أو خاصّ. وقد انتصرتُ في هذا الموضوع لما طرحه السيد علي السيستاني، وخالفتُ ما طرحه الآخرون وبخاصّة السيد الخوئي، حيث تداخلت عندهم شخصيّتان: شخصيّة المرجع، وشخصيّة من له الولاية، فتمّ تصوّر أنّ المرجع بما هو مرجع تقليد يشترط فيه شروط هي في الحقيقة ليست شروطاً له بما هو مرجع تقليد يُرجع إليه من باب رجوع الجاهل للعالم، بل هي شروط له من حيث له نوع من الولايات على الأوقاف أو القاصرين أو الخمس أو الشأن العام أو غير ذلك، فالمرجع بما هو مرجعٌ ومفتٍ ليس من شروط الرجوع إليه كفاءته في القضايا العامّة، بل هذا الشرط عقلانيٌّ له صلة بجانب الولاية العامّة أو الخاصّة الثابتة له. والتفكيك في الشخص بين مرجعيّته وولايته أمرٌ غاب عن كثير من المعاصرين في تقديري، فحيث وقع تلازم عمليّ بين المرجعيّة والولاية ـ ولو الولاية الخاصّة ـ تمّ تصور أنّ ما هو من شروط ولايته هو في الحقيقة من شروط مرجعيّته، وهذا خطأ. تماماً كما لو فرضنا أنّ المرجع غير خبير ولا كفاءة له في صرف الأخماس على المستحقّين، لسببٍ أو لآخر لا يضرّ لا باجتهاده ولا بعدالته، فهنا فتواه حجّة، لكن لا يجوز للمقلِّد تسليمه الخمس ما دام هو يشرط تسليم الخمس لمطلق المجتهد العارف بالمصارف بنحو المعرفة الكليّة والجزئيّة، الحكميّة والموضوعيّة، كما هي الحال في نظريّة تسليم الخمس للحاكم بمعيار إحراز رضا الإمام، رغم ما فيها من إشكالات كثيرة تجعلها غير مقنعة إطلاقاً.
من هنا أعتقد بأنّ تكثير شروط المرجع والمفتي نتيجة ملابسات لا ترجع لخصوصيّة إفتائه ومرجعيّته، بل لخصوصيّة ولايته القضائيّة أو الخاصّة أو العامّة، هو أمرٌ غير دقيق. والقول بتلازم المرجعيّة والولاية فقهيّاً مطلقاً، فمن لا ولاية له لا مرجعيّة له، وفتواه ليست بحجّة، كما يطرحه بعض الباحثين.. أمرٌ لم يثبت.
نعم، لو كانت معرفته بالقضايا العامّة ـ وليس الكفاءة بما هي مهارة، بل المعرفة ـ لها دور في صدق عنوان المجتهد عليه، بحيث لولا هذه المعرفة يُشكّ في اجتهاده وبخاصّة في القضايا المعاصرة، فهذا أمرٌ آخر، بل هو في الحقيقة بحثٌ في مكوّنات الاجتهاد وعلومه، لا في ثبوت شرطٍ إضافيّ غير الاجتهاد، فانتبه.
وقد كنتُ تعرّضت لهذه المسألة عند حديثي عن شرط الإسلام والانتماء المذهبيّ في مرجع التقليد، وذلك في كتابي المتواضع (قواعد فقه العلاقة مع الآخر الديني: 699 ـ 709، الطبعة الأولى، 2020م).
حيدر حبّ الله
الاثنين 3 ـ 1 ـ 2022م